بين "الإنسان الكامل" و"الإنسان المتفوق"

د. محمد جميح
السبت ، ١٧ يونيو ٢٠٢٣ الساعة ٠٧:٣٣ مساءً

 

عاش الإنسان يبحث عن نموذج أعلى، عن صورة مثالية، عن «الإنسان الكامل» السوبرمان أو «الإنسان المتفوق» ليعوض إحساسه بالنقص ووقوفه عاجزاً أمام القوى الطبيعية المختلفة التي لم يستطع التغلب عليها، وكذا ليشبع رغبته في البقاء والخلود. وقد أخذت فكرة الإنسان الكامل أو المتفوق صوراً وغايات مختلفة، حسب الثقافات والأديان والفلسفات والأبعاد الروحية المتباينة للأجناس البشرية، كما نتج عن هذه الأفكار مجموعة من الممارسات النفعية التي وظفت نظريات الإنسان الكامل أو المتفوق توظيفاً سياسياً راكمَ الكثير من السلطات وجنى الكثير من الأموال.

يرى الفيلسوف والمتصوف ابن عربي أن هناك نموذجاً لـ«الإنسان الكامل» تصدر عنه معظم الشخصيات الإنسانية الكاملة، وهذا النموذج يشبه الإطار الذي يعاد ضمنه تشكيل صور الكمال الإنساني في تجلياته الجسدية، ويطلق هذا المتصوف على ذلك النموذج للإنسان الكامل مصطلح «الحقيقة المحمدية» وهي النموذج الأصلي أو النمط الذي تصدر عنه جميع الصور والأشكال والشخصيات الكاملة الصادرة عن نموذج كان «صورة» في علم الله قبل أن يتنزل «في مَرْكَب» وهو الجسم الذي تنزلت على هيئته تلك الحقيقة المثالية، جامعة بين الصورة الإنسانية و«الخلافة الإلهية» مستنداً وغيره من رجال التصوف إلى بعض الأحاديث التي تشير إلى وجود الإنسان روحاً في «عالم الذر» قبل أن تتنزل في جسدها من مثل: «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» في إشارة إلى كينونة «الحقيقة المحمدية» الروحية قبل آدم، وقبل أن تولد «الشخصية المحمدية» البشرية التي ولدت بطبيعة الحال بعد آدم بحقب متطاولة.

ويأتي تسييس أفكار ابن عربي عن «الإنسان الكامل» من الإشارة إلى أن ذلك الإنسان يعد «خليفة أو نائب الله» حيث «خلق الله آدم على صورته» في أول تنزيل للحقيقة المحمدية أو للإنسان الكامل في شخصية بشرية، قبل أن تتنزل تلك الحقيقة في شخصية النبي محمد عليه السلام الذي يعد أجلى تجليات تلك الحقيقة التي تعد بدورها «نائب الحق في حضرة الخلق ونائب الخلق في حضرة الحق» وهو المقام الذي يؤهل صاحبه ليكون حلقة الوصل بين الله والخلق، والذي بلغه عدد كبير من الأنبياء والأولياء، وفق رؤية ابن عربي وغيره من المتصوفة. وعلى الرغم من أن ابن عربي لم يهدف إلى تحقيق تطبيقات سياسية محددة لمصطلح «خلافة أو نيابة الله» إلا أن تلك الفكرة قد وظفت توظيفاً سياسياً لدى بعض فرق المسلمين الدينية والسياسية قبل ابن عربي وبعده، كما نرى لدى الفكر السياسي الشيعي الذي يرى «نيابة الإمام المهدي» عن الله، ومن ثم نيابة «الولي الفقيه» عن المهدي، وهي الوظيفة السياسية والدينية التي تعطي صاحبها قدسية لا يصل إليها نقد، لأنها انعكاس لإرادة المهدي التي هي إرادة الله، في تجلٍ واضح للكهنوت الثيوقراطي في أبلغ صوره. كما وجدت تطبيقات لمقولة «خلافة الله» لدى بعض خلفاء وسلاطين المسلمين الذين رأوا أنهم «خلفاء الله» في توظيف للدين لأغراض سياسية غير خافية، على الرغم من أن مصطلح «خليفة» الذي تسمى به صاحب المنصب الأول في الدولة الإسلامية كان في أصل وضعه يشير إلى «خليفة رسول الله» وليس خليفة الله، لأنه هو الشخص الذي ولي أمر المسلمين بعد موت الرسول عليه السلام، وأول من حمل هذه الصفة كان أبا بكر الصديق، ثم جاء عمر الفاروق بعد أبي بكر، وحسب الترتيب الزمني فكان من المفترض أن يتلقب عمر بـ«خليفة خليفة رسول الله» لأنه جاء بعد أبي بكر، غير أن اللقب طويل فاستعاض عنه عمر بلقب «أمير المؤمنين».

بعد ابن عربي وفكرته عن «الإنسان الكامل» بقرون جاء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بفلسفته عن «الإنسان المتفوق» أو السوبرمان، وهي الفكرة التي وإن التقت مع فكرة ابن عربي في كون الفكرتين انعكاساً لطموح الإنسان في الخلاص والخلود والكمال إلا أن نيتشه في تصوره للسوبرمان ينطلق من منطلق أنه خلاصة عمليات «الانتخاب الطبيعي» الداروينية التي تأثر بها نيتشه في فلسفته عن السوبرمان الذي يجسد فكرة «البقاء للأقوى».

ومن أهم الفروق الجوهرية بين فكرة ابن عربي عن «الإنسان الكامل» وفكرة نيتشه عن «السوبر مان» أن ابن عربي يرى إنسانه صورة روحية تنزلت في هيئات بشرية، لكي تكون صلة الوصل بين الله والبشر، كون هذا الإنسان نائباً عن الله، أما سوبرمان نيتشه فإنه كائن جسدي حسي متحلل من الأخلاق التقليدية، يميل للقوة ويتجاوز الرحمة والضعف، وإذا كان الإنسان الكامل عند ابن عربي يعمل نائباً لله وخليفة له فإن السوبرمان عند نيتشه ليس نائباً للإله، بل إنه قد حل محل الإله الذي «مات أو قتله نيتشه» ليحل محله هذا السوبرمان النيتشوي الجديد.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي