قراءة سريعة في خطاب “التتويج”: السيسي يعتمد الحلول الامنية وليس السياسية

عبدالباري عطوان
الثلاثاء ، ١٠ يونيو ٢٠١٤ الساعة ٠٩:٤٤ صباحاً
قراءة سريعة في خطاب “التتويج”: السيسي يعتمد الحلول الامنية وليس السياسية لمكافحة “الارهاب” ومنع الفوضى.. ويتوعد الاخوان المسلمين بالاجتثاث دون رحمة.. وهذه مغامرة خطيرة غير مضمونة النتائج
 
 
تابعنا ليلة امس مثل الملايين من العرب، الخطاب الاول للرئيس عبد الفتاح السيسي بعد تنصيبه رسميا، وكان اقرب الى خطاب رئيس حكومة، منه الى خطاب رئيس دولة، لما تضمنه من عرض مطول لبرنامج العمل الذي سيطبقه في المرحلة المقبلة في المجالات الزراعية والصناعية والاقتصادية والامنية والثقافية والاجتماعية، وغيرها.
الرئيس السيسي اسهب في التفاصيل (الخطاب استغرق 55 دقيقة)، وربما يعود سرد ذلك محاولة للرد على بعض الانتقادات التي راجت في الفترة التي سبقت الانتخابات، وركزت على غياب “برنامج عمل” لديه لمرحلة ما بعد الانتخابات، يتناول الخطط الامنية والاقتصادية وكيفية علاج ازمات مصر الضاغطة مثل ازمة البطالة والمحروقات والاستقرار الامني.
لا نتردد في القول دون اي حرج، وبعد التوقف عند جميع المفاصل الهامة ان خطاب الرئيس السيسي كان “عسكري الطابع″ بامتياز، خطاب يتضمن الكثير من العصي والقليل من الجزرات.. خطاب مليء بالتهديد والوعيد، مع اشارات عابرة الى “التسامح” و”الغفران” ومحاولة حل الخلافات عبر الحوار، دون اعطاء الا القليل من التفاصيل وتجنب تسمية الاشياء باسمائها.
***
نشرح اكثر ونقول ان الرئيس السيسي حصر اولوياته الامنية في دحر “الارهاب”، واكد على اقصاء خصومه من العملية السياسية، وحصر هؤلاء بحركة الاخوان المسلمين وحدها دون ان يسميها، عندما قال بالحرف الواحد “اقولها واضحة وجلية: لا تهاون ولا مهادنة، مع من يريد تعطيل مسيرتنا نحو المستقبل الذي نريده لابنائنا” وفي فقرة اخرى قال “اما من اراقوا دماء الابرياء وقتلوا المخلصين من ابناء مصر فلا مكان لهم في هذه المسيرة”، طيب اين سيكون مكانهم؟ لم يجب عن هذا السؤال ولكننا نستأذنه ونجيب نيابة عنه، ونقول انها السجون واعواد المشانق.
الرئيس السيسي تحدث في الخطاب عن مشاريع تطوير التعليم والصحة والزراعة والصناعة، واعادة الريادة المصرية في الثقافة والفنون، وكان لافتا في الوقت نفسه، تركيزه على الجانب الامني والاخطار المستقبلية وهذا تركيز مشروع، بالنظر الى حجم التحديات التي تواجهها مصر في هذا الصدد في الحاضر والمستقبل، وهي تتطلع الى الامن والاستقرار حيث لا تنمية بدونها.
من الواضح ان الدول الخليجية، بقيادة المملكة العربية السعودية، قررت تولي اعباء التحدي الاقتصادي بنفسها وازالتها عن كاهل الرئيس المصري الجديد وحكومته وتجسد ذلك من خلال دعوة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز لعقد مؤتمر للدول المانحة لدعم الاقتصاد المصري، تكون نواتها الدول الخليجية الثلاث التي كان حضورها بارزا في مهرجان التتويج وهي الكويت والامارات الى جانب السعودية، ويبلغ دخلها السنوي مجتمعة ما يقرب التريليون دولار من عوائد تصدير النفط وحدها.
هذه الدول الخليجية تريد ان يركز الرئيس السيسي على الملف الامني، واكمال ما بدأه في اجتثاث حركة الاخوان المسلمين التي تعتبرها مصدر التهديد الابرز لسلطاتها او “اس البلاء”، حسب توصيف الامير الراحل نايف بن عبد العزيز، واستخدام المزيد من الاجراءات الامنية الشرسة في هذا الصدد، ولكن هذا التوجه له مخاطره ايضا، وغير مأمون العواقب.
صحيح ان القوات الامنية المصرية “فضت” اعتصامات رابعة العدوية بشراسة وخلفت الف قتيل على الاقل، واعتقلت جميع قيادات حركة الاخوان من الصفين الاول والثاني واكثر من عشرين الفا من انصارهم، واصدرت المحاكم المصرية احكاما متسرعة ومعدة مسبقا بالاعدام في حق اكثر من الف ومئتي شخص، ولكن هذه الاجراءات، على شدتها، لا تعني ان الحركة “انتهت” مثلما قال الرئيس السيسي في احد مقابلاته التلفزيونية قبل الانتخابات.
ما حدث عمليا ان الحركة انتقلت من فوق الارض الى العمل السري تحتها، وقياداتها الشابة الجديدة التي هي في طور التبلور حاليا، والتعايش مع الواقع الامني الجديد، ربما تكون اكثر شراسة من القيادات التقليدية “الهرمة” من حيث ميلها اكثر الى العنف، وتشبعها، او معظمها، بالرغبة في الثأر والانتقام ومحاولة خلق المصاعب والعقبات في طريق العهد الجديد.
الرئيس جمال عبد الناصر الذي يقتدي به وارثه، الرئيس السيسي نجح في القضاء على حركة الاخوان بصورة مؤقتة، وليس دائمة، لعدة اسباب ابرزها سيادة وطغيان النهج العلماني والاشتراكي على العالم، والمنطقة العربية في حينها، وضعف الحركة الاخوانية وميلها للتوجه الدعوي السلمي، في خطوة ذكية صاغها مرشدها العام السابق عمر التلمساني الذي قابلته في لندن لعدة ايام، وتبني الرئيس عبد الناصر مشروعا وطنيا توحيديا قوميا، التف حوله الشعب المصري او معظمه، والشعوب العربية او معظمها ايضا، عنوانه التصدي للاستعمار الاجنبي الذي يجمع ابناء العالم الثالث جميعا على كراهيته وليس ابناء مصر فقط، ومواجهة المشروع الصهيوني وحشر طاقات الامة في هذا الصدد.
والاهم من كل ما تقدم ان مصر الستينات، وهي مرحلة سطوع نجم الرئيس عبد الناصر و”تحجيم الاخوان”، لم تكن محاطة بدول فاشلة مثلما هو حاصل حاليا في ليبيا والسودان (بدرجة اقل) ومنطقة الساحل الافريقي حيث توجد عشرات 50 مليون قطعة سلاح من كل الانواع والاحجام، وآلاف الاطنان من الذخائر والمئات من الجماعات الاسلامية المتشددة التي لم تنجح آلاف المليارات الغربية في القضاء عليها في افغانستان واليمن وسورية والعراق، تحت مسمى الحرب على الارهاب.
ضعف الاقبال على صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية كان ملحوظا، وهو مؤشر واضح على ان الشعبية الكبرى التي حظي بها المشير السيسي بسبب اطاحته بالرئيس المنتخب مرسي لم تعد على حالها وبالقوة نفسها، بعد عام على هذه الاطاحة، رغم محاولات اعلام الشرسة اخفاء هذه الحقيقة عن عامة الشعب المصري المتلقين لبرامجه ونشرات اخباره.
***
مهرجان التنصيب انتهى، وخرج الرئيس السيسي من الظل الى الواجهة، ولم يعد بامكانه الحكم من خلف ستار السيد عدلي منصور الرئيس المؤقت، مثلما كان عليه الحال طوال الاشهر الـ 12 الماضية، وعليه ان يتذكر ان الشعب المصري الذي اجمع على الاطاحة بالرئيس حسني مبارك، واخبر المؤسسة العسكرية على تنفيذ رغبته هذه ثم ساعدت نسبة منه في الاطاحة بالرئيس المنتخب الثاني (محمد مرسي) كسر حاجز الخوف، واصبح اكثر خبرة في اشعال فتيل ثورات التغيير.
سياسة القبضة الحديدية التي نراها مرسومة بقوة في كل فقرات الخطاب وعباراته، وربما لا تعطي ثمارها المرجوه لاصحابها اذا لم تترافق مع الرحمة والحوار والرغبة الحقيقية في التعايش وتحقيق المصالحة الوطنية، فمصر ليست جزيرة منعزلة عن محيطها الاقليمي ومن ثم العالمي فهي تؤثر وتتأثر به، ولعل انخفاض مستوى التمثيل في حفل التنصيب وغياب زعامات عربية ودولية عنه مؤشر آخر يجب ان تتم دراسته بعناية فائقة.
نتفق مع الرئيس السيسي في رفضه للفوضى في مصر بعد ان شاهدناها ونشاهدها بكل وضوح في ليبيا والعراق واليمن وسورية، ولكن ما نختلف معه فيه وبكل قوة هو اعتماده الحل الامني، واسقاط الحل السياسي في الوقت نفسه لمواجهتها، اي الفوضى، والحيلولة دون وصولها الى البر المصري، وهو الحل الذي لم نرصد مطلقا اي اثر لوجوده في خطابه الاخير، فتغييب الحلول السياسية وتغليب الحلول الامنية الطريق الاسرع للفوضى والتفتيت والانهيار الامني وسفك الدماء والحروب الاهلية.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي