إنه محمد منير

فتحي أبو النصر
السبت ، ١٥ فبراير ٢٠١٤ الساعة ٠٨:٠١ صباحاً
دخل الفنان المصري المتفرّد محمد منير الشيوعية من باب الصوفية حتى تعمّدت فيه الصوفية عبر الشيوعية أكثر، فصار فناناً خبيراً بحال الإنسان؛ إذ يغني له حاثـاً على احترام كينونته وعلى تأجيجه المتواصل للحلم «منذ ألبومه الأول عام 77م». 
ومع منير لنا أن نستشعر حقيقة التسامي وروعة الاختلاف وقوة الموقف الفني الراقي، فالشيوعية والصوفية من أعظم المبادئ الإنسانية التي تربّي النفس على قيم البذل والعطاء والكشف والنقد، إضافة إلى الصمود والفرز الجيّد والتذوُّق الصعب لمدلولات وقيم الكائنات والأشياء. 
والحاصل هو أن العشاق الذين يحلمون بإصرار مجنون رغم خيبتهم؛ هم جمهوره الذين يحبّون الحياة كما لا تتوقع الحياة ذلك. 
 الغامضون الساحرون من المثقفين الغلابى، أو الغلابى المثقّفون المثابرون على الرؤية الأخرى، البشر الحقيقيون «تحديداً البني آدمين ـ حسب التعبير المصري» أولئك الذين يرفضون الذل الإنساني، منحازون تماماً إلى الحرية، فيما هم بأرواح نضالية رحيبة وواسعة تحترم المعرفة والعاطفة والالتزام والموقف وعدم تسليع الفن وألا يكون الفن خادماً للاستبداد أو متواطئاً معه. 
استطراداً فإنه الفنان التلقائي الذي تؤدّي إليه كل طرق المواجيد والشغف والمقاومات الأصيلة، وفي ذات السياق غلب على جمهور فنان ضليع المعنى ومتجذّر القضية كمنير اهتمامهم بالسياسة وبالأدب وحقوق الإنسان غالباً. 
 ثم إن محبّي تجربته كما لاحظنا لابد يرون في التثوير والمعرفة تدعيماً لكفاح الطبقة الوسطى العربية ضد التشيّؤ والانكسار، ما انعكس على علاقة منير المتسقة معهم كما في مشاركته مثلاً لكل الفعاليات المصرية المطالبة بالتغيير على اعتبار أنه واحد مثلهم: يائساً لا يغادر الأمل. 
كذلك هو الفنان الكبير محمد منير كشخصية خاصة، وكأنموذج للحداثي الناهض بوعي الرفض للاستلاب، منير فناني العربي الحي المفضّل.. منير المتمرد غير الخاضع لشروط الثقافة الرخيصة التي هاجمت الوعي الفني العربي منذ مطلع الثمانينيات، تاريخ ظهوره كـاسم مختلف ومازالت تستمر، يمضي متقدّماً في الساحة ببراعة وحماسة إضافة إلى قوانين إنسانية وفنية عليا تحكم مزاجه الذي لا يروّض بسهولة. 
لقد تألّق مع المعلم الفذ المخرج العبقري يوسف شاهين كما في عدة أفلام مهمّة ظهر فيها متألقاً، فضلاً عن أنه نال بمنتهى الجدارة ثقة كبار وأروع شعراء وملحني الأغنية المصرية المجددين «صلاح جاهين، مرسي جميل عزيز، سيد حجاب، أحمد منيب، مجدي نجيب، عبدالرحيم منصور، هاني شنودة، بليغ حمدي، فؤاد حداد، عبدالرحمن الأبنودي، وجيه عزيز، كمال الطويل، كوثر مصطفى، أحمد فؤاد نجم، بهاء الدين محمد» ....إلخ. 
والحاصل هو أن منير المُثخن بتراث منطقته «النوبة» العريقة استطاع أن يصنع سياقه الغنائي المتميّز والقدير بجدارة الجهد والإخلاص والعصامية وتطوير التراكم، كما أبدع في الحفاظ على هويته الفنية النافذة، متغلغلاً بمتطلبات التجديد والتجريب على ذلك النحو الإبداعي البحت المعهود عنه. 
غير أنه عانى مراراً ولايزال - رغم وصوله إلى العالمية - من تهميش آليات إعلامية عربية منتشرة ذات إمكانيات عملاقة للأسف، بينما يكمن السبب الحقيقي في عدم استيعابها لتجربته الثرية كونها بلا حس وبلا قضية وبلا مضمون في الأساس سوى الاستهلاك والسطحية وما بينهما؛ كل فهلوة تجميع الثروات السريعة فقط. 
باختصار قابل «الكنج محمد منير كما يلقبه محبوه» موجات التفاهة والسطحية المتوالية بالثبات على العمق الفني ومدلولاته الشاملة، ما جعل تجربته المشهودة -بمضمون المغايرة جرّاء طابعها الموسيقي والقيمي الابتكاري الذي لا يتكرّر بسهولة في المنطقة العربية محط اعتراف العالمين ببواطن جماليات وتحوّلات الأغنية العربية الحديثة، كتجربة تستطيع أن ترمي يباسنا في حضن غيوم لا متوقّعة كلما استمعنا إليه بشغف صادق، فضلاً عن أنها تجربة مكابدة ومتألقة تسكن - تماماً - صميم الضوء والإبداع لأنها بلا أدنى ادعاء فني أو إنساني. 
 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي