عن الفيدرالية.. ميلاد ولاية تعز

كتب
الاربعاء ، ٢٨ مارس ٢٠١٢ الساعة ٠٣:٥١ صباحاً

 

 

عارف ابو حاتم

وكأن اليمن تعيش مرحلة ما بعد الاستقلال: الحماس متقد، والآراء المتضاربة طافية وغامضة، ورؤوس النخبة بين صاعدة ومنتكسة، مراكز قوى نمت وأخرى أفلت، اليمين الانتهازي قفز إلى قلب الثورة، وتعامل معها كـ«مغسلة»، وربما تمكن من قول كلمة قاسية في وجه نظام صالح، ليعود بعدها إلى مركز جديد في عهد نظام جديد، لكن بصفة ثورية هذه المرة، وبين العهدين يدفن عهده الأسود!!.
كثيرون جاءوا إلى «المنصة» بذات السيارة والمرافقين، وعادوا إلى ذات القصور والأرصدة الممنوحة نهباً من المال العام، مكفرين عن خطاياهم بسب «نظام العائلة»، وأخذ دورة في «مغسلة الثورة»، وكأننا جماعة بوذية قامت بثورة روحية، لطرد الأرواح الشريرة من أجسادنا ومعابدنا، ثم نرتدي ألحفة برتقالية كسكان «التبت»، وترتدي نسائنا أردية الراهبات ويبقى «الدلي لاما» هو هو، يسكن القصر ويمتلك الرصيد والمنصب والنضال والثروة المنهوبة من خزانتنا.
أشعر أنني أتقدم إلى الموضوع عبر مقدمة مستفزة، والتمس العذر، فثمة متلازمتين تحاصراني كلما فكرت ولو بجزء من مخرجات ثورة التغيير؛ الأولى: عودة ذات الوجوه التي ألفناها تصادر المال العام وتحتكر الوظيفة العامة، والمنحة والنضال والشرف، وتصادر حتى الكلام في المؤتمرات: من قدرتها في الحديث خلال مؤتمر عن صناعة المعادن، إلى حقها في الحديث عن إصلاح مناهج التعليم وإعادة هيكلة الجيش.
والمتلازمة الأخرى هي رأس الأمر وذروة سنامه في هذا المقال، وهي : تعز، ملهمة الأحرار، ومنبع ثورة التغيير، ومكمن السلمية، والمدنية والحلم الكبير.
أتفق مع جزء كبير مما أورده الزميل عبدالعالم بجاش في مقاله السبت 10 مارس، بصحيفة الجمهورية، وكان محقاً في نقده لأبناء تعز المؤثرين.

 

فهم يتشتتون في أحلامهم الوطنية الكبرى، وينسون تعز، فالتعزي لا يستطيع أن يفكر إلا بمشروع الوطن الواحد، لم أجد حتى الآن «تعزياً» يقول: «لدي حلم» كما قال مارتن لوثر كنج، حين سعى لتحقيق حلمه بإلغاء نظام العنصرية في أمريكا، وكان مشروعاً لكل الوطن.
و«التعزي» إذا لم ينطلق من وجعه الداخلي، وخصوصيته المحلية «تعز» فلن يستطيع فعل شيء، والمنطق والتاريخ المعاصر يشهدان بهذا: ماذا قدم نخبة تعز للوطن الأم، كل أحلامهم الوطنية الكبرى تعثرت، لأنها اصطدمت برغبات «الطهابيش» الكبار.
كان الأديب عبدالله عبدالوهاب نعمان أكثر عقلانية مقارنة بكثير من رموز تعز، حين اختلف مع رئيس الوزراء عبدالله الكرشمي، واحتدم خلاف حاد حول شق وسفلتة طريق التربة - تعز، فوزير الإعلام النعمان أصر على إنشاء الطريق ورئيس الوزراء رفض بشدة، إلى درجة أن قال للنعمان: «إذا شقيت الطريق جزمتك في وجهي» فتوجه النعمان وبثقل أسرته المشيخي والسياسي والنضالي، وشق الطريق، وبعدها أرسل فردة حذاءه داخل ظرف إلى رئيس الوزراء الكرشمي، وكتب عليه: «لقد أوفيت بوعدي فأوفي بوعدك»، وعلى أثرها وجه الكرشمي بمنع النعمان من دخول الاجتماع الأسبوع لمجلس الوزراء، فتوجه النعمان إلى الباب المقابل «إذاعة صنعاء» ووجه نداء مباشراً: «أعزائنا المستمعين إليكم بيان هام يلقيه وزير الإعلام عبدالله عبدالوهاب نعمان فيما يلي نصه: «قدمت حكومة المهندس عبدالله الكرشمي اليوم استقالتها إلى فخامة رئيس الجمهورية القاضي عبدالرحمن الإرياني»، وبهذا أطاح النعمان بحكومة الكرشمي، بعد ستة أشهر من تشكيلها.
للنعمان خصوصية «تعزية» تستحق أن تمنحه لقب «ابن تعز البار»، فهو في السياسة كالأدب مفرط في تبجيل الخصوصية التعزية، في حين لا يمنطق هويته، فقد كتب وتغنت قصائده بكل ربوع اليمن.
أنه حالة فريدة بحاجة إلى استقراء جديد، عن سيرة رجل شكل حالة «فيدرالية» فردية، أحب تعز وخدمها وأظهرها، كما لو كانت خصوصياتها إيرادات وتشريعات محلية، في حين تغنى وامتدح كل اليمن، وشدد على وحدة التراب الوطني كما لو أن ذلك قضايا سيادية كالدستور والجيش والعملة.
أجدني ملزماً بإيراد عدد من الأمثلة عن رموز تعز الذين كرسوا قدراتهم ونفوذهم لبناء المشروع الكبير، فضاعوا وضاعت مشاريعهم، لأنها تصطدم بـ«طهابيش»، لهم مصالحهم ورؤاهم المعجونة بالتناقضات: فهم يريدون بناء الدولة والقبيلة معاً، ويحلمون بالتنمية في حين لا يتركون السلاح، ويدعون المستثمرين ويخطفون السياح، ويدعون لاقتصاد قوي ويفجرون أنابيب النفط وأعمدة الكهرباء، ويبحثون عن الأمن ولا يتوقفون عن التقطع والثأر.
حاول «بيت هائل» بما لهم من ثقل اقتصادي محاكاة النعمان في تعزيز الولاء للخصوصية التعزية، وغالباً ما اصطدم طموحهم بنزعة الرئيس صالح التهكمية ضد تعز، فكان كلما قوت شوكته في الحكم، أغلق شريان في جسد تعز، حتى أغلق المنفذين اللذين كانت تطل منهما تعز على العالم: ميناء المخا، ومطار تعز.
حاول «بيت هائل» النهوض بتعز الجريحة من كبوتها، وتقدموا للرئيس السابق بمشروع إعفاءهم من الضرائب خمس سنوات، على أن يتسلم منهم تعز بعد ذلك وهي شبيهة بدبي، بمعنى بناء كامل البنية التحتية لتعز، وإعمارها وتوظيف الأيدي العاملة فيها.
فكان رد الرئيس «اللاصالح» خبيثاً، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه فيه العذاب: «أعرف يا بيت هائل أنكم عترجعوا تعز مثل دبي، لكن غدوة عتطلع المحويت تقول تشتي مثل تعز، ومنين أدي لها، أنتم تشتوا تعملوا تكريس للمناطقية»... وهكذا نسف كامل مشروعهم التعزي.
ربما كان الشيخ المناضل محمد علي عثمان يدرك مبكراً حجم الذي يجب أن تكون عليه تعز، وهو الاتجاه نحو الفيدرالية، ففي أثناء اجتماع لمجلس قيادة الثورة اختلف الشيخ عثمان مع أحد المشائخ «الطهابيش» الذين ابتلعوا الثورة والنضال، فخرج عثمان من قاعة الاجتماعات غاضباً يدفع الباب برجله، ووجد أمامه الشيخ قاسم بجاش الخرساني (والد الزميل الكبير عبدالرحمن بجاش) ينتظره في الصالة المقابلة، فقال عثمان للخرساني: هيا نمشي يا رجّال، والله لأقسم أبوها من سمارة نزل».
بعد فترة قصيرة وُجِدَ الشيخ عثمان مقتولاً في أمام بيته في تعز القديمة!!.
في تقديري أن تهديد الشيخ محمد علي عثمان لا ينطوي على أي تمييز عنصري، أو نزعة انفصالية، بل أراد به تحقيق حلمه الوطني الكبير وهو الفيدرالية، فقد وجد في تعز مثقفين وعمال ورجال أعمال ومهنيين ومشائخ يطوقون إلى بناء دولة مدنية يكون فيها الدستور هو «شيخ» المشائخ، ومرجعية الجميع.
وهذا ما يشير إليه أحد الضباط المصريين في مذكراته، إذ كتب: وحين وصلنا منطقة الحجرية قابلنا الشيخ عبدالحق الأغبري وكان لأول مرة نجد «شيخ مودرن» فهو لا يحمل السلاح كثيراً، ويهتم بالتعليم، ويرسل أولاده للدراسة في الجامعات الكبيرة»، والشيخ الأغبري هو شقيق والدة الراحل عبدالعزيز عبدالغني.
وللشيخ الأغبري موقف يستحق الآن إعادة قراءة مدلولاته، فحين ارتص الجميع لاستقبال الرئيس جمال عبدالناصر في مطار تعز، تقدم الشيخ الأغبري وأخرج من حوزته صرة فيها جنيهات ذهب حميري أصيل، وقدمها هدية للرئيس عبدالناصر فاستغرب الرئيس من كرم هذا الشيخ، وهنا تدخل الرئيس السلال للتوضيح: «فخامة الرئيس هذا الشيخ عبدالحق الأغبري هو الشيخ الوحيد الذي يعطي الدولة ولا يأخذ منها».
وحين توفي الشيخ الأغبري قال عنه محمد عبدالله صالح (شقيق الرئيس السابق) اليوم توفي الرجل الذي لم نجده يوماً يصعد سلالم مؤسسات الدولة ليطلب منها شيء».
كانت دائما نظرة أبناء ونخبة تعز تتسع لحلم الوطن الكبير، وبناء الدولة المدنية اليمنية الحديثة، لذلك تعثرت كل أحلامهم، ولم يكن بينهم من فكر على طريقة الأديب النعمان، من حيث الانطلاق من الخصوصية «التعزية»، والشيخ العريقي واحد ممن تعثرت أحلامهم الكبرى، وقد أغفل تاريخ الثورة اليمنية سهواً وعمداً سيرة مناضل بحجم أحمد ناشر العريقي، هذا التاجر الذي كان يتصل بالضباط الأحرار من أثيوبيا ليسألهم عن احتياجات خطتهم التحررية، وحين دعاه السلال وقد أصبح رئيساً، قال له: «يا شيخ أحمد ناشر دعوتك لأقول لك: ماذا تحتاج أنت الآن، فقد خدمت الثورة والجمهورية كثيراً، وجاء الوقت لنرد لك الجميل»، فغضب الشيخ ناشر وقال للسلال: «ظنيتك طلبتني لحاجة تنقص الدولة.. أنا لا أطلب شيء من أحد».
كان الرجل مفرط في ولائه، ولا يستطيع احتراف «الطهبشة»، ويدعي النضال، ويبدأ بحلب خزينة الدولة.
وذات صباح في منتصف السبعينيات مر أحد «الهاشميين» وسط شارع جمال بصنعاء ووجد الشيخ أحمد ناشر العريقي يجلس فوق كرسي صغير أمام محل لبيع الأحذية، فقال له بتهكم فج: «هاذي نهايتك يا عريقي تبيع جزمات، بعد ما دفعت أموالك لحقك الأحرار»، تصادف تهكم الرجل مع موعد ذهاب الطلاب إلى المدرسة، فابتسم العريقي بهدوء، ورد: «يكفيني من الدنيا أن استمتع برؤية هؤلاء الطلاب وهو يرحوا ويرجعوا من المدرسة».
انصرف «الهاشمي» وقد وقعت إجابة العريقي في نفسه كالسهام، ويبدو أنه كان شديد الأدب، فعاد مسرعاً، ودنا يقبل رأس العريقي: «أنا آسف يا عم ناشر».
وبذات التراجيديا انتهى الأمر بنخبة تعز ومناضليها من عبدالغني مطهر ومحمد قائد سيف ومحمد علي عثمان وعبدالقوي حاميم وأحمد سيف الشرجبي، وفي مرحلة التعددية السياسية عقب الوحدة، ضاق نظام صالح بعدد من نخبة تعز، مثل عبدالعزيز السقاف وعبدالحبيب سالم وعبدالله سعد وثلاثتهم توفوا في المستشفيات نتيجة حوادث غامضة.
تعز اليوم تتمدد فوق ثروة هائلة تبدأ من البحر والميناء والمطار وأراضٍ خصبة، وصناعات متنوعة ومزارات سياحية، وجبال تكتنز بالثروة المعدنية، وفوق كل ذلك يوجد العقل البشري.
من يزور عمّان يجدها شبيهة بتعز بتضاريسها (لولا إهمال النظافة)، ويمكن للإنسان التعزي أن يفعل كما فعل الملك الحسين بن طلال في مملكته الأردنية، قال الرجل: أرقني السهر وأنا أطل من شرفة بيتي وأعاود النظر لخريطة بلدي، ووجدت أنني اختنق في بلدٍ لا نفط فيه ولا معادن ولا غاز، والمزارات السياحية محدودة، كنت أنظر للخريطة ولا شيء أمامي، أطليت من الشرفة فرأيت الإنسان الأردني فقررت أن أستثمره هو»، وفعلاً قرر الاستثمار في الإنسان، والآن تتقدم الأردن بوصفها العاصمة الطبية للشرق الأوسط، وفيها صناعات متنوعة، وخبراء في كل مجالات الهندسة.
الإنسان التعزي ذو ذهنية متفتحة وناضجة ومتجددة، ومنذ قيام ثورة سبتمبر وحتى الآن لم تخلوا قائمة لأوائل ثانوية الجمهورية من طالب تعزي، وأحياناً يتجاوز عددهم نصف القائمة.
كانت وظيفة تعز طوال العقود الماضية هي تخريج العقول الذين يجب أن يمسكوا بمفاصل الدولة، فيما تترك الوظائف العليا والخزينة العامة لمن يحترفون النهب الممنهج، وهذا لا يعفينا أبداً من الحديث عن «طهابشة» فساد من أبناء تعز، فقد سمح لهم النظام السابق بالفساد طولاً وعرضاً، ولم يسمح لهم بمجرد التفكير بمشروع خدمي يمكن أن ينهض بمحافظتهم، ورموز تعز في السلطة أمثال عبدالعزيز عبدالغني والبركاني والعليمي وعبدالرحمن عثمان والصوفي وغازي الأغبري وراوح والعسلي، جميعهم عصاة بحق مدينتهم، لم يسعو إلى توظيف مكانتهم من أجل رد الاعتبار لتعز، والنظر في احتياجاتها من إعادة مطار تعز وميناء المخا وإنشاء محطة تحلية، وبناء مدينة طبية وأخرى رياضية، بل على العكس كلما كثر رجال تعز في السلطة، زادت المحافظة تراجعاً وانتكاساً.
ذات يوم صحت في رأس المستشار الألماني الأسبق «كونراد إديناور» فكرة أن « التاريخ هو المجموع الإجمالي لأشياء كان يمكن اجتنابها»، والمواجهة القائمة بين الحالمين ببناء الدولة المدنية والمستميتين دفاعاً عن بناء دولة يختلط فيها القبلي بالثيوقراطي يمكن تجنبها، فأبناء تعز يكادون يتجهون بالإجماع نحو بناء الدولة المدنية، ويمكنهم تجنب المواجهة والاصطدام بالآخرين، من خلال توظيف طاقاتهم وقدراتهم لبناء ولاية فيدرالية تتسع لأحلامهم المدنية.
وحديثي عن تعز لا يعني أبداً أن انتقص من قدر أي محافظة فـ«كلنا في الهم شرقُ»، ونظام صالح قد ساوى بيننا في الظلم، ولا أظن لحظة ستأتي أفضل من هذه، وتعبير دولة رئيس الوزراء باسندوة كان شفافاً وصادقاً في حواره الأسبوع الماضي مع صحيفة الخليج الإماراتية، وقال صراحة أنه يفضل الفيدرالية حلاً لمشاكل اليمن.
وأعتقد أن الفيدرالية أفضل وأقصر الطرق نحو التنمية، فهناك عشرات الدول في العالم المتقدم أخذت بنظام الفيدرالية كماليزيا وكندا وأمريكا، وفي العالم العربي أصبحت الإمارات العربية المتحدة هي معجزة الصحراء بفضل أخذها بنظام الفيدرالية.
وإذا تعذر ذلك بسبب تعدد المحافظات الـ21 يمكن الدمج حينها بين المتجاورات والمتجانسات، ويمكن لهذا الجزء الجنوبي الغربي من الوطن أن يشكل مقاطعة فيدرالية نموذجية تضم إب وتعز والحديدة، ولا أحد سيسهم بدور فاعل في توضيح المعالم الحدودية كالجغرافيا، فغرباً البحر الأحمر، وشمالاً المرتفعات السفلية لجبال سمارة، التي تبدأ بنهاية منطقة «الدليل»، وغرباً وجنوباً الضالع ولحج، وسيكون لتلك المقاطعة أو الولاية مواردها واستقلالها الجزئي المتفق عليه، فيما يبقى الجيش والدستور والبرلمان والعملة والثروات السيادية ورئيس الجمهورية واسم الدولة ونشيدها الوطني، وتمثيلها الخارجي، كلها تبقى موحدة لا تراجع عنها.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي