اليمن.. متى الخروج من عنق الزجاجة؟

كتب
الجمعة ، ٢٣ مارس ٢٠١٢ الساعة ٠٤:١١ صباحاً
  د. عمر عبد العزيز مع بداية تباشير الخروج الرشيق من عنق الزجاجة في اليمن، وبالترافق مع التوافقية الحكيمة النابعة من مرئيات المبادرة الخليجية التي شكلت سياجاً محلياً وعربياً ودولياً منيعاً، وبالانتقال السلمي المشهود للسلطة، وما سبقها من تشكيل حكومة وفاق وطني.. كل تلك المحطات الهامة في المُعطى السياسي اليمني، شكّلت عتبة انطلاق لخروج ناجز من عنق الزجاجة الضيق للنظام السابق، المشهود له بالإخفاقات واللعب على الأوراق التكتيكية القاتلة، والتخلّي الطوعي عن واجب التسيير المُتّسق مع مقدرات الشعب وإمكانياته. لسنا الآن بصدد كيل التهم لنظام سقط بالضربة القاضية منذ جمعة الكرامة، ومتواليات الانشقاقات الفاعلة في المؤسستين العسكرية والسياسية، ولكننا سنحاول استشراف أبرز التحديات الماثلة على مستويين جوهريين: المستوى السياسي المترابط مع تنفيذ مرئيات المبادرة خلال المرحلة الانتقالية التي ستستمر لمدة عامين، والمستوى الاجتماعي الاقتصادي الذي يتطلب معالجات عاجلة لسلسلة من الاستحقاقات الشاخصة. في المستوى الأول، لا مفر من الإسراع في إعادة هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية، على قاعدة الولاء للنظام السياسي التوافقي من جهة، وعلى أساس التخلّي الحُر عن الارتباطات العائلية والقبائلية المشينة. وفي تقديري أن هذه المهمة الجوهرية، من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه لانسياب بقية المهام الكبيرة. يأتي في المرتبة الثانية مؤتمر الحوار الوطني، الذي سيشمل كامل المكونات السياسية والقوى الميدانية التي اكتسبت شرعيتها من الشارع وأمانيه المشروعة، ويدخل في هذا الباب الحراك الجنوبي بطيوف مكوناته، وكذا الحوثيون المتقاطعون سلباً مع الدولة، بالإضافة إلى المكونات الشبابية التي تُمثل الرصيد الحي للمستقبل الواعد. ولضمان النجاح في مؤتمر الحوار الوطني، لا بد من وحدة الفرقاء تأسياً بتجربة اللقاء المشترك، الذي يضم خمسة مكونات سياسية نابعة من أساس التعددية المُشرعنة منذ وحدة مايو عام 1990. وبهذا المعنى يمكن للحراكيين توحيد رؤاهم ومشاركتهم في المؤتمر، كما أن شباب الساحات المتواشجين مع القوى السياسية الفاعلة في المجتمع، عليهم توحيد مشاركتهم في هذا المؤتمر الوطني الذي سيمثل محطة انعطافة تاريخية مؤكدة، ومن صالح الحوثيين، في المقابل، أن يلتحقوا بالعملية السياسية الشاملة، بدلاً من البقاء خارج ملعب الإجماع الوطني. الاستحقاق الثالث والعاجل، يتمثّل في كتابة دستور الدولة الجديد، والذي سيحدد ماهية هذه الدولة، ويضع النقاط على الحروف حول معنى الدولة الجديدة بوصفها دولة اتحادية، ومعنى الهوية المقرونة بالمواطنة القانونية لا السلالية، ومعنى المشاركة المقرونة بتحرير الذمة المالية والإدارية من جهامة المركز وبيروقراطيات الفساد والإفساد، وسيكون الدستور شاهد حال على المسافة الإجرائية بين السلطة بوصفها تعبيراً جمعياً عن إرادة الشعب، والمؤسسة بوصفها حامي حمى الشرعية الدستورية، وما يستتبعها من قوانين ناظمة لحياة المجتمع. ويتمثّل الاستحقاق الرابع والمُلح، في اتخاذ تدابير عاجلة في اتجاه الإصلاح، والترجمة الاستباقية لبروفات اللامركزية على الأرض، من خلال تمكين المحافظات المختلفة من ممارسة صلاحيات الحكم المحلي الناجز، وخاصة في الجوانب التنموية والاقتصادية والإدارية والمالية والتشريعية، وبما لا يتعارض مع مفهوم الدولتية بصيغتها الفيدرالية القادمة. وعلى خط مُتّصل، لا بد من مُناجزة المتاعب اليومية المقرونة بالعنفين النفسي والجسدي الواقع على المواطنين، فالفقر الأسود والغنى الفاجر لا يلتقيان البتة عند تخوم السلم الاجتماعي. إطلاق مبادرات التنمية وتحرير البشر من ربقة الدواوينية الإدارية المُخرْسنة بالفساد، هو المدخل للتعامل الحميد مع الجماعات المتطرفة، الرافضة للدولة القائمة والمحتملة شكلاً وتفصيلاً. فالاقتراب من مرابع عصيانهم السافر، متاح جداً من خلال منظومة من الأدوات التي تجمع بين الحكمة وتأكيد واجب الدولة في الحفاظ على السلم الاجتماعي، ولكن دون الانجرار لتكرار بروفات المعالجات الأمنية التي ثبت فشلها في غير مكان من العالم، بل من خلال النموذج اليمني الخاص في التعامل مع محنة التطرف بمختلف أشكاله وألوانه. الحوار ممكن دوماً، والتشخيص الدقيق للحالتين الحوثية والقاعدية الجهادية، هو المدخل السليم لحلحلة المُشكلتين في المدى المنظور. إن قراءة المشهد السياسي والمجتمعي الماثل، بمنطق موضوعي تاريخي وابستمولوجي، يتطلّب التنازل عن الفكر الانطباعي وردود الأفعال المشفوعة بالغنائية والتقديرات الاستنسابية، فالماضي لا يمكنه أن يتراجع بين عشية وضحاها، ومنطق التاريخ يقتضي الإقرار بأن التعايش بين الماضي والمستقبل مرجله الحاضر الذي يدفع ثمن المخاض العسير. ومن هذه الزاوية بالذات، لا مفر من الإقرار بأننا لن نترك الماضي بين ظهرانينا في يوم أو شهر أو سنة، لكن حضوره الكسيف سيومئ ضمناً وجوهراً لمعنى التغيير، فالتغيير على عسره وصعوبته، يمثل أصلاً موضوعياً تقاطع مع إرادة جماهيرية وسياسية مؤكدة، وخطاب اليوم يختلف عن خطاب الأمس القريب، ولا أحد بوسعه اليوم أن يتوهّم أنه سيكون الحاضر الغائب الذي لا شبيه له أو مثال. هذا ما حدث في عدة بلدان عربية عصفت بالزعيم المُطلق، وفي المقابل أبانت مُخاتلة وزيف الذين أسهموا في عمْلقة ذلك الزعيم واعتباره وحيد ذاته وفريد عصره. في اليمن، ورغم الأيام القصيرة التي مضت منذ الانتقال السلمي ظاهراً.. الجبري جوهراً، ترجمان لقول الحكيم القائل: المرء في الظاهر ذو اختيار * والجبر باطناً عليه جار وكان من عجائب الجبّار * أن يُجبر العبد بالاختيار منذ ذلك اليوم الفلكي الفريد 21.02.2012 لانتقال السلطة، تغيرت الأحوال على مستويات متعددة، ولن أُحصي هنا ما تم عملياً على خط تدوير الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، أو استعادة العملة اليمنية بعضاً من عافيتها، وحتى سلسلة القرارات قيد التنفيذ ذات الصلة بالإصلاحات الوظيفية، بل أيضاً الانتقال الجوهري للخطاب الإعلامي بشقيه الرسمي والأهلي. فقد أصبحت فضائيات اليمن المُختلفة تلامس هموم الشارع، وتستدعي الذاكرة العامة للمجتمع بطيوف ألوانها، وفاضت الصحافة اليومية بمنابر التعدد الحميد، ولم نعد نتعاطى مع أصنام هلامية، أو آراء مختزلة كتلك التي عهدناها عقوداً من الضلالات والافتئات على الشعب، بل العكس، فالمربع يتّسع اليوم للتنوع الذي سيُفضي إلى حكمة مؤكدة، ويكشف الغث من السمين، دونما استيهام بأن الغث سينحسر من ذات نفسه بين عشية وضحاها. هذه الحقائق تجعلنا مُطالبين بالتمسك بالأمل والتفاؤل، وقراءة التراجيديا المتنقلة على خط المدن والمحافظات المختلفة.. قراءة تسمح لنا باستقراء ما وراء الآكام والهضاب من حقائق مسحوبة على كآبات الماضي القريب، الذي لن يطاول التاريخ ونواميسه، ولن ينحسر أيضاً خارج نطاق القوانين الموضوعية لهذه النواميس عن البيان الإماراتية.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي