أعيدوا زهرة المدائن عدن سيرتها الأولى

د. عبده مغلس
السبت ، ٢١ مارس ٢٠٢٠ الساعة ١١:٢٤ مساءً

عدن التي عرفت المدينة والناس، العيش والتعايش، الموقع والمكان والأهمية، لوحة خاصة لها تميزها وطابعها الخاص، وعبقها المعطر بروائح الفل والورد والكاذي، المختلط بروائح البخور العدني، المميز والمتميز، ترسم لوحتها ابتسامات الوجوه، المختلطة بروائح العطر والبخور، في حافاتها وشوارعها. عدن مدينة الحب والمحبة والمحبين، عدن التي لا تعرف الكراهية وحروب الأديان، مَدينة تُغلف سمائها أصوات المآذن، المختلطة بأجراس الكنائس، وترانيم معابد اليهود  والفرس والسيخ والهندوس، مَدينة جمعت مختلف الأديان والملل، ناسها يعبدون آلهتهم في معابدهم، ويتعايشون في حاراتهم وشوارعهم تجمعهم الأخوة الإنسانية وحسن الجوار، في كل حوافي وشوارع عدن.

عشت بكريتر في الميدان أمامنا مدرسة أروى للبنات، وخلفنا نادي الحسيني ( مقر حزب التجمع الوحدوي الآن) وعلى شمالنا مطعم البحر الأحمر لصاحبه العرشي، وعلى يميننا أمام ساحة مفتوحة لمطاعم الكراعين المميزة بقالة الجار ابن حضرموت الشحاري من الشحر، أتذكر جيراني الدكتورة بنتو الهندية الأصل أشهر طبيبة نساء في عدن وبابورها المرسيدس الأسود، وجارنا فارع العزعزي حارس المدرسة، وجيراننا من بيت الصنعاني، ومن بيت مطهر، وجيراننا من الفرس والبينيان والهنود، لم نكن نعرف أصولنا من أين كل ما نعرفه أننا أهل وجيران وأبناء حافة، ولا أتذكر مطلقاً أي من هذه المسميات الطافحة من مجارير ثقافة الكراهية المتداولة اليوم، نلعب ونختلف وتتضارب في شوارعها التي لا تعرف الكدافة أو قبح المنظر، لم نكره بعضنا ولم نقاطع بعضنا، وهذ هو جو المدرسة وزملاء الدراسة، المدرسة التي كنا نخشى دخولها وأجسامنا غير نظيفة وشعرنا غير ممشط ومدهون، وملابسنا غير مكوية وجزمنا البيضاء غير نظيفة.

أما عدن الموقع والإقتصاد فتميزها جعلها درة التاج البريطاني، وتميزت مدينة عدن في جنوب الجزيرة العربية والشرق الأوسط بمعلمين إقتصاديين بارزين، الأول ميناء عدن الرابط -الذي لا يزال- للطرق البحرية بين الشرق والغرب وأستراليا وإفريقيا، فبه تحط السفن المبحرة ذهاباً وإياباً بين الشرق والغرب، مما جعله ثاني ميناء على مستوى العالم، وأتذكر أفواج السياح " الباسنجر" التي لا تنقطع وهم يتجولون للتسوق في دكاكين التواهي والمعلا وكريتر، فهي الميناء الحر الذي سبق كل المواني، وكانت أحيانا المحلات لا تقفل أبوابها، وكان من خلاله يتم تزويد اليمن والجزيرة بإحتياجاتهم.

أما معلمها الإقتصادي والمتميز الثاني فكان تكرير النفط والذي بدأ بإنشاء خزانات النفط التي أنشأتها شركة البترول البريطانية المعروفة(BP) في التواهي عام ١٩١٩ م لاستقبال النفط المكرر في مصفاة عبدان، حيث كان ميناء عدن يقوم بتزويد السفن المغادرة والعائدة من وإلى أوربا وأمريكا بالوقود، ثم بعدها تم إنشاء مصفاة عدن التي بدأ تشغيلها عام ١٩٥٩ م، في مدينة عدن الصغرى والتي أشترتها بريطانيا من العقارب وكان اسمها جزيرة إحسان وأصبحت المصفاة تستقبل جزء من بترول الخليج وتقوم بتكريره.

عدن نتاج هذه الميزات الثلاث الموقع والسكان بتعايشهم الأخوي، والميناء والمصفاة، وبالتالي شكلت عدن رافداً اقتصادياً مهماً للإقتصاد البريطاني. اليوم غابت عن عدن أصوات المآذن وأجراس الكنائس وترانيم المعابد وتعايش الأهل والجيران، خيم الموت والدمار وسكتت ترانيم المآذن والمعابد، وتعالت أصوات الثكالى والأيتام والأرامل، ممتزجة بأنين المصابين وحشرجات المغدورين والمقتولين.

 أختطف الناس وقتلوا في بيوتهم وشوارعهم، تم قتل العيش والتعايش والجيرة والمحبة، وطغت رائحة الموت والبارود وروائح المزابل، واختفت روائح البخور والعطور والورود، اختفت الإبتسامات بناسها، فلقد حصدتهم الحروب المناطقية وخرابها، وأكملت على من تبقى منهم الإغتيالات وثقافة الكراهية والتهجير، وتوقف الميناء والمصفاة والمطار، كموارد للإقتصاد والتنمية، وأدخلت ثقافة الكراهية عدن  في صراعات وحروب الهيمنة المناطقية والإقليمية والدولية.

هذه ليست عدن التي أحببنا وعرفنا، وعشنا وتعايشنا فيها،  كمجتمع محب ومتناغم، لقد تحولت إلى مكب لنفايات صراع الهيمنة والكراهية والمناطقية، ولن يجني أهلها سوى النتن والموت والكراهية والصراع. أعيدوا عدن التي عرفنا، عدن العيش والتعايش، أعيدوا زهرة المدائن لسيرتها الأولى، لتكون درة اليمن الإتحادي وعاصمته، وقلب التواصل بين الشرق والغرب ومركزا لتجارة مشروع الطريق والحرير.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي