د/ فهمي أحمد || قراءة في بيان وتحركات الحكومة اليمني

كتب
الثلاثاء ، ٢٧ أغسطس ٢٠١٩ الساعة ١٢:٣١ صباحاً

ة

لم يمضِ أسبوع منذ أن أطلقت الحكومة في اجتماع لمجلس الوزراء بياناً  أكثر ما يمكن وصفه هو أنه جريئا وخطوة جادة وواثقة عدا أن الأكثر جرءاةً من البيان هو تحوله المتسارع من محض خطاب إلى واقع ، بخلاف ما اعتدناه من تراخي أحيان في الأعوام الفائتة ، وتجلى واقع البيان في زيارة رئيس الوزراء د . معين عبدالملك ، في الأمس لمحافظة شبوة وصولا إلى عتق في حين أن صفيح المدينة الساخن لم يبرد بعد..!! 

إن زيارة رئيس الوزراء اليوم لحاضرة محافظة شبوة ، عتق ، هو الترجمة الفعلية للثقة المتعاظمة التي أبداها بيان الإجتماع الأخير مطلع الأسبوع الجاري لمجلس الوزراء برئاسة د. معين عبدالملك  والرسائل المهمة في حرص الحكومة على حقن الدماء ، وتطبيع الأوضاع ، وفرض الأمن والاستقرار، وأن الحكومة على استعداد دائم للحوار لكن تحت مظلة الدولة وضمن المبادئ المتعارف عليها في دعم الشرعية ، وان المعركة الأساسية هي ضد المشروع الإيراني والحوثيين ، وأن شبوة اليوم تنتصر لليمن ومشروع الدولة الاتحادية ، وهي تضع نفسها في المكان الصحيح قائدة للمشروع الوطني  .

تحركات الحكومة على الأرض هي الأنتصار العملي لبيان غسلت به الشرعية وجهها كاشفة عن خيارات أخرى تلوح بها ضمنيا وأن خيار إعادة المواقف المتذبذبة ، إلى جادة أهداف التحالف المشروعة وخيار المواجهة (مواجهة المجلس الانتقالي إنطلاقا من شبوة) كخيارات أولى ما تزال قائمة ولم تستنفذ بعد...

وبعيدا عن كون البيان أتى معلقا على الأحداث لا صانعا لها بحسب ما تفرضه الضرورة السلطوية للحكومة إلا أن زيارة رئيس الوزراء اليوم تضع حجر الأساس لقادم جاد ومتغير تماما كما وضع البيان الأخير النقاط على الحروف ، وسدد أصبع الاتهام بوضوح وأظهر صرامة وثقة سلطوية ترفض المساومة .

بيان الحكومة لم يبقَ حبيس الإعلام هذه المرة ، والحكومة لم تبقَ حبيسة البيان كالمعتاد ، تغير أملي يستحق أن نقف له مصفقين ومساندين ، وأن ترتخي لأجله أعصابنا المشدودة على آخرها منذ اشتعال فتيل مواجهات عدن ولنعيد مجددا قراءة بيان الحكومة....

تحدث البيان في مقدمته عن استمرارية "جهود الحكومة في مواجهة التمرد المسلح الذي قامت به مليشيا ما يسمى بالمجلس الانتقالي" كما جاء في البيان وهو توصيف تحجيمي موفق وذكي لصالح الحكومة من مسمى" انقلاب" كوصف تداوله صحفيون وناشطون ومسؤولون كثر للأحداث الأخيرة التي دشنها المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن وهو ما يعني رفض الحكومة القاطع لأي جلسات تشاورية مع المجلس الانتقالي كنِدّ لنِد...!!

أتت مقدمة البيان موجزة وبلغة موثوقة كما لو أنه كان مدفوعا بانتصارات الحكومة في شبوة على الرغم من أنه أتى سابقا لها إلا أن ترتيبات معارك شبوة بما لا يدع مجالا للشك كانت قد سبقت المعارك بأيام وبدت الحكومة أكثر حرصا على هذه المحافظة ، كون بقاء شبوة في يد الشرعية هي إحدى أبرز الخطوات التأسيسية لقيام دولة فيدرالية من أقاليم عده ، أن بقاء شبوة في يد الحكومة يعني أيضا أن عدن وأبين والجنوب برمته ما يزال على مرمى خيط من قبضة الشرعية.

وكمن يقف على أنفاسه خرج رئيس الوزراء باتصالات وتصريحات عدة لتضخيم الحاضنة الشعبية بصورة أكبر لصالح الشرعية في شبوة عبر اعتماد عدد من المشاريع التنموية والخدمية وفقا للأولويات العاجلة والملحة للمواطنين وفي اتصاله ولقاءه ايضاً بالسلطة المحلية والعسكرية في محافظة شبوه وجه رئيس الوزراء باتخاذ كافة الإجراءات للحفاظ على أمن واستقرار وسلامة المواطنين وتطبيع الأوضاع في أعقاب عملية التمرد الفاشلة", إن انتقائية رئيس الوزراء وعنايته بألفاظه كاستخدامه لمصطلح تمرد بدلا من انقلاب وتركيزه على المواطنين والخدمات الأساسية والإشادة بالالتفاف الشعبي بدرجة أساسية ينم عن خبرة سياسية وذكاء متقد للرجل كون خيار الداخل ، الخيار الشعبي ، هو الخيار الملح الآن للحكومة والسند الأخير، تلاه تحركات صائبة لحكومة يترأسها شاب ذو خبرة أدارية أتى إلى العمل الحكومي من بوابة العمل السياسي ، وأدرك الطبيعة السياسية التي تحكم الملفات الحكومية كافة في زمن الحرب .

اتهم البيان بوضوح ، ودون التفاف لفظي كما كان يحدث في السابق ، دولة الإمارات العربية المتحدة بتمويلها ودعمها لهذا التمرد المسلح" وما نجم عنه من تقويض مؤسسات الدولة وتمزيق النسيج الاجتماعي وتعريض الأمن والسلم المحلي والإقليمي للخطر وتنامي خطر جماعات العنف والتطرف وتفاقم المعاناة الإنسانية ... وبما يتعارض مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وأهداف تحالف دعم الشرعية" وهي كلها مخاطر منطقية إذا ما تمعنا في التركيبة المسلحة للمجلس الانتقالي الجنوبي المتقنع بمطالب الإنسان الجنوبي وهذا يعيدنا سلفا إلى القناع شبيهه الذي ارتدته جماعات الحوثي مطلع انقلابها ولهذا فإن رفض المجلس الانتقالي يتأتى من الطبيعة الرافضة لقيام جماعة الحوثي أو أي كيانات تسعى لتشكيل دولة داخل الدولة وبهذا يكون موقف الحكومة قويا أمام المجتمع الدولي ومجلس الأمن يسانده القرار 2216 والمرجعيات الثلاث.
أكد البيان على "مواجهة التمرد بكل الوسائل التي يخولها الدستور والقانون بما يحقق انهاء التمرد"، تشديد البيان مرتين على مصطلحي الدستور والقانون هو ما يميز الدولة كسلطة عن الكيانات المسلحة الأخرى وفي هذا أيضا ملاحظة على أي موقف يدعوا الحكومة والمجلس الانتقالي للحوار ، وهو مطلب مهادن ينظر إلى المجلس الانتقالي كحقيقة واقعة ليبدو مع الحكومة كطرفين في معادلة متوازية.

يعود البيان مجددا ليحمل "دولة الإمارات المسؤولية الكاملة عن التمرد المسلح" ويطالبها "بإيقاف كافة أشكال الدعم والتمويل لهذه المليشيا"

ثمن البيان جهود المملكة العربية السعودية دون أن يكشف عن ماهية هذه الجهود التي دعاها لمواصلتها دعما لخطط الحكومة لإنهاء التمرد"، استقدام مصطلح خطط هنا في سياق البيان يعني أن الحكومة لا تقف موقف المتفرج بعكس ما تفصح عنه مخاوف الداخل اليمني إلا أن ما ينبغي التوقف عنده هنا أن البيان دعا السعودية لمواصلة جهودها في دعم خطط الحكومة لإنهاء التمرد في الجنوب .

دعا البيان في تأكيده الرابع كل القوى السياسية والاجتماعية" للالتفاف حول شرعية هادي في مواجهة التمرد المسلح في العاصمة المؤقتة عدن والانقلاب الحوثي ، المدعوم إيرانيا ، في صنعاء" وهو ما يعني تعويل الحكومة اليمنية هذه المرة على الداخل أكثر من تعويلها على الخارج وهي خطوة في الاتجاه الصحيح بحسب مراقبون إذ أن الحكومة هي الخيار الشعبي الجمعي الوحيد في ظل تناسخ خيارات مختلفة ومتباينة إلا أن مراقبون أيضا لا يغفلون التماهي والتعامي طيلة الأعوام الفائتة على تنامي كيانات مسلحة حزبية ومناطقية تفوق إمكانيات وقدرات الحكومة ذاتها.

في النقطة الأخيرة من البيان دعا مجلس الوزراء المجتمع الدولي" ومؤسساته للقيام بمسؤولياتهم في دعم الحكومة اليمنية واستقرار وسيادة ووحدة الجمهورية اليمنية" وهي دعوة مسؤولة لن تأتي أكلها مالم يتبعها تحرك حكومي دولي واسع سياسيا ودبلوماسيا وحراكا شعبيا أيضا وحضور حكومي قوي في طاولة مجلس الأمن تمسكا بضرورة تنفيذ القرار 2216 وتوسيع البند السابع ليشمل كل من شأنه تهديد وحدة واستقرار وسيادة اليمن وهو الثالوث المقدس الذي اختتمت به الحكومة بيانها.

إن تأزم الموقف الحكومي لا يختلف في شأنه اثنان عدا أن البيان يفصح عن صرامة حكومية ترفض تقديم أي تنازلات لكنه يكشف في الوقت ذاته، إذا ما استثنينا معارك شبوة ، عن صرامة قلبية مُثَبَطة ، منزوعة الأطراف وساكنة كلما همت بالخروج تعود إلى الكُم السعودي وهو خيارا ضروريا ولا مفر منه لحكومة واقعة بين سندان المجلس الانتقالي جنوبا ومطرقة جماعة الحوثي شمالا وكيانات مسلحة أخرى تشمر عن مخالبها خفيّة وكانت سببا في انتشار فيرس الفساد في تركيبة العسكرية لتظهر بهذه الهشاشة البالغة.

يبقى السؤال: ماهي الأوراق والدعائم التي تملكها الحكومة لتحويل لغة البيان الحادة والواثقة إلى واقع معاش؟!
وهل للحكومة خيار آخر للخروج من أفتعال الأزمات لها ، كلما همت في التقدم ؟!

لم يمضِ عام منذ تولي الدكتور معين عبدالملك منصب رئيس الوزراء في حكومة هادي خلفا لأحمد عبيد بن دغر.
نشاط الرجل الذي بلغ جيشانه في الحوار الوطني والذي لعب دوراً مهما كعضو ورئيس فريق لإحدى القضايا ، وفي لجنة صياغة الدستور كمقرراً ، وأخيراً تقلده وزير الاشغال العامة والطرق اضافة الى انه اظهر قدرات كبيرة في مشروع برنامج الإعمار السعودي في اليمن ، وما يميز الرجل عن الأخرين هي القدرة على تخيل المستقبل وتحويل الرؤى إلى خطط ومشاريع ، والشاهد في ذلك الخطوات المملموسة للحكومة ، حيث أنها أول حكومة تدفع  رواتب ما يتجاوز 63 في المائة من موظفي القطاع العام في الدولة على المستوى الوطني ، منهم 81 ألف موظف يعيشون في مناطق سيطرة قوى التمرد الحوثية ، كما تدفع الحكومة بصورة منتظمة معاشات المتقاعدين في جميع مناطق الجمهورية .

كل هذا أهّله إلى تولي منصب رئيس الوزراء، كما يرى فيه الكثير من اليمنيين نموذجاً مختلفاً عن السياسيين والنخب السابقة التي حكمت البلاد .

اتفق الجميع في بادئ الأمر خصوصا الانتقالي ، والتحالف على خيار معين عبدالملك كرئيسا للوزراء إلا أن الرجل وبعد تقلده المنصب أجاد التمييز والفصل بين علاقاته الشخصية ومنصبه كرئيس وزراء يحمل قضية شعب بكامله ، هذا ما يفصح عنه البيان ، خاصة في أول ظهور له بعد ترأسه للحكومة قال أن اهتماماته ستكون منصبه في الملف الاقتصادي وهو ملف شائك انهالت عليه حكومات سابقة بمنجل الحصاد والغسيل المالي وتجلى هذا واضحا مؤخرا بتعري ضعف الملف العسكري ، في معاركها مع المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن ، الأبتعاد عن الملف العسكري هذا لم يكن من منطلق استسلامي ، بل كان قراءة استباقية واضحة للوضع الحالي ، وردا استباقيا من منطق الشعور بالمسؤولية على تطلعات المواطن .

ربما ما يزال ثمة حيز زمني ومكاني نسبي للرئيس هادي للإسراع في معالجة هذا الملف وتنظيفه أولا ومن ثم تحسينه وتقويته في اتجاه الهيكلة وتحرير ما تبقى من محافظات الشمال ليصبح بعدها تحرير الجنوب من طيش المجلس الانتقالي مسألة وقت لا أكثر، هذا هو الخيار الصحيح في ظل الموقف الإماراتي المنقلب والموقف السعودي المهادن

الحجر الصحفي في زمن الحوثي