الرئيسية > دنيا فويس > أزمة الصحف المصرية لا علاقة لها بالديون بقدر غياب المهنية

أزمة الصحف المصرية لا علاقة لها بالديون بقدر غياب المهنية

" class="main-news-image img

استبقت الحكومة المصرية إجراء حركة تغييرات واسعة في القيادات الصحفية بالتزامن مع الولاية الثالثة للرئيس عبدالفتاح السيسي برفع أعباء الديون عن المؤسسات الصحفية الحكومية، وتحركت نحو إسقاطها بما يخفف من الوضع الاقتصادي المتأزم داخل غالبية المؤسسات، ويتيح فرصة للتطوير الذاتي بعيدا عن إرهاقها بالمزيد من الأعباء كي تتفرغ لاستعادة دورها الإعلامي.

 

ويترقب المشهد الإعلامي في مصر تغيرات على مستوى الوجوه المسؤولة عن إدارة وتحرير الصحف المختلفة التي انتهت ولايتها رسميا قبل الانتخابات الرئاسية التي عقدت في ديسمبر الماضي، لتكون الولاية الثالثة للسيسي في الحكم مصحوبة بشخصيات إعلامية جديدة يمكن أن ترد الاعتبار للمهنة، والتي انعكست على أداء معظم المؤسسات الصحفية في مصر وجعلته أقل مهنية.

 

وشهد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الأربعاء مراسم توقيع اتفاقية بين الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي والهيئة الوطنية للصحافة، وهي المسؤولة عن المؤسسات الصحفية الحكومية، تقضي بوضع آليات للتخلص من مديونيات كل مؤسسة، والتي تتجاوز ثلاثة مليارات جنيه (نحو مئة مليون دولار)، تراكمت بالفوائد، وصارت المؤسسات شبه عاجزة عن السداد جراء أزماتها المالية.

 

وتقرر أن يتم إسقاط 75 في المئة من ديون المؤسسات الصحفية لهيئة التأمين الحكومية بتوفير احتياجات الهيئة من مطبوعات ووسائل نشر ودعاية وإعلان، مع سداد النسبة المتبقية من أرباح المؤسسات في المشروعات الاستثمارية التي تمتلكها، وهي صيغة مقبولة للجميع كونها رفعت عبء سداد النسبة الأكبر من مديونيات الصحف.

 

وقال عبدالصادق الشوربجي، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، إن خطوة الخلاص من جزء كبير من عبء الديون تعكس إيمان القيادة السياسية والحكومة بأهمية الصحافة القومية والحرص على استمرارها في أداء رسالتها كواحدة من أهم مفردات القوى الناعمة للدولة، لافتا إلى وجود حرص واضح من الحكومة على متابعة أوضاع المؤسسات الصحفية وحل المشكلات التي تواجهها لتقوم بدورها.

 

 

ويأمل صحافيون في مؤسسات حكومية أن تكون خطوة الخلاص من عبء الديون مقدمة لتحسين أوضاعهم المادية، طالما أن قيادات كل صحيفة اعتادت التحجج بالديون للتنصل من حقوق العاملين، ما انعكس سلبا على أدائهم ووصلت الأوضاع إلى حالة من الترهل، ترتب عليها تراجع دور وأداء الصحف المختلفة.

 

وتسببت الأزمة المالية الطاحنة في أن تكون عاجزة عن تحقيق انتصار مهني مرتبط بمواكبة تطورات العصر، مع أن كل مؤسسة لديها عمالة تفوق احتياجاتها، لكن المعضلة في عدم توفير الحد الأدنى من الأدوات والإمكانيات التي تساعد على القيام بالدور المهني وفق مستجدات تقديم الخدمة الصحفية بشكل مبتكر.

 

وعلى الرغم من التحول الرقمي الذي شهدته الكثير من الصحف الحكومية، إلا أنها بدت عاجزة عن توظيفه لصالحها، وصارت المواقع الإلكترونية المملوكة للمؤسسات نسخة مكررة من الصحيفة الورقية، من حيث التقليد في المحتوى وعرضه للجمهور، وفي كل حديث عن التطوير يتحجج المسؤولون بالوضع الاقتصادي والديون لتبرير عدم شراء مستلزمات حديثة لتطوير أداء الصحف.

 

يرى مراقبون أن حل مشكلة الديون بالنسبة للمؤسسات الصحفية الحكومية لن يقضي على مشكلاتها المهنية، طالما أن المسؤولين عن إدارتها اختزلوا أزماتها في النواحي المالية، ما كرس بقاء الوضع الراهن، كونهم يعتبرون التطوير من وجهة نظرهم يتعلق بنواح إدارية ومالية بعيدة عن الشق المهني، وهي نقطة لا يتلاقى عندها الصحافيون ورؤوس الإدارة والتحرير في الصحف الحكومية.

 

ترتبط أزمة المؤسسات الحكومية بعدم وجود إرادة لتطويرها مهنيا، ولا علاقة لمشكلاتها بالشق الاقتصادي بقدر ما تكمن المشكلة في تحولها إلى نشرات إخبارية بلا عمق وتحليل وتفسير ومناقشة القضايا التي تمس صميم احتياجات الجمهور.

 

قال يحي قلاش، نقيب الصحافيين الأسبق، إن هناك فهما خاطئا للمشكلات التي تعاني منها الصحف الحكومية، والحل يتطلب وضع خطة للإنقاذ توازن بين الشق الاقتصادي والمهني، لأن حل الإشكاليات المالية فقط يُبقي الوضع الراهن بلا تغيير، وحينها تخسر الحكومة وسيطا معتدلا ورصينا في توصيل رسائلها إلى الناس، ويخسر الجمهور منابر قادرة على تلبية مطالبه في المعرفة بشكل مهني.

 

وأضاف لـ”العرب” أن في ظل التطورات المتسارعة في الإعلام لن يصبر الجمهور على أي منبر لا يلبي تطلعاته، ويهتم بالموارد على حساب تحسين المحتوى وتقديم مضامين جيدة، وأي محاولة لاختزال مشكلات الصحف في الشق المالي هي محاولة للهروب من الأزمة، لأن معيار النجاح وجود حرية إعلامية، وهذا يحتاج إرادة.

 

 

هناك الكثير من أبناء المهنة على استعداد للقيام بدورهم بأقل الإمكانيات، المهم صناعة محتوى جيد، لكن المشكلة في وجود إدارة تميل إلى الالتزام بالرواية الرسمية فقط، وهي أزمة بعيدة عن الشق الاقتصادي لكل مؤسسة، ما تسبب في إصابة الصحافيين بإحباط انعكس على أدائهم وبعضهم ارتضوا أن يصبحوا مجرد موظفين.

 

يبرهن الواقع الذي تعيشه معظم الصحف المصرية على أن الحكومة التي تحركت لمساعدة المؤسسات اقتصاديا تتحمل مسؤولية تأزم أوضاعها مهنيا، لأنها تصر مع كل حركة تغييرات في القيادات أن تستعين بعناصر تفتقد للكفاءة والابتكار والتفكير خارج الصندوق، وبات الكثير من المسؤولين عن كل مؤسسة هم سبب المشكلة، ولا يعرفون من أين يبدأ حل الأزمة، ولذلك يبررون الإخفاق بوجود تحديات اقتصادية.

 

يتمسك خبراء الإعلام بأن الحكومة مهما تدخلت لتقديم مساعدات مالية للمؤسسات الصحفية لن تغير من أدائها إلى الأفضل، ما لم تكن لديها رؤية شاملة للتطوير تقوم على انتقاء كفاءات، تسند لهم مهمة إعادة الاعتبار والتأثير والقوة والنفوذ للصحف القومية، مع منحهم هامشا من التحرر والاستقلال كي لا يكون المحتوى المقدم للجمهور محاطا بخطوط حمراء تؤثر على سطحية المعلومات التي تصل إلى الجمهور.

 

تبدو خطوة إسقاط جزء كبير من ديون الصحف الحكومية رسالة من النظام بأن الدولة ماضية في الحفاظ على المؤسسات القومية، لأنها الصوت الإعلامي الرصين والوسيط الأكثر حكمة وقبولا عند الجمهور، ومهما كانت هناك قنوات وصحف بديلة سوف تبقى الصحف القومية عند دوائر صناعة القرار صاحبة الريادة وجوهر التنوير، ولذلك ترغب الحكومة في إعادتها كمنابر مؤثرة بتخفيف الأعباء المالية.

 

مهما كانت نوايا السلطة حسنة في تطوير الواقع الاقتصادي والمهني داخل الصحف القومية سوف تظل الأزمة في القائمين على إدارتها، لأن النسبة الأكبر منهم يطبقون سياسة تحريرية محاطة بجملة من المحاذير، ولو لم يطلب منهم ذلك صراحة أو بشكل غير مباشر، ويرون أن التجويد والتعمق وتلبية احتياجات الجمهور من تقديم محتوى جاد ومتوازن قد يوقعهم في محظورات تجعلهم في مرمى الاتهام بالخروج عن النص.

 

يفرض ذلك على دوائر صناعة القرار الإعلامي أن تكون أكثر اعتدالا في اختيار الوجوه على مستوى الإدارة والتحرير، وهؤلاء كُثُر داخل المؤسسات الصحفية الحكومية إذا أرادت أن تعود هذه المنابر لتصبح صوتا رسميا للدولة ووسيطا معتدلا ومحترفا عند مخاطبة الداخل والخارج، ولا تتحول إلى عبء على الحكومة مرة أخرى، ولا يحتاج ذلك سوى إلى استبعاد أهل الثقة لصالح الكفاءات.


الحجر الصحفي في زمن الحوثي