الرئيسية > نوافذ ثقافية > التغريبة الفلسطينية تتكرر لايف في غزة.. الدراما عندما تحمي الذاكرة!

التغريبة الفلسطينية تتكرر لايف في غزة.. الدراما عندما تحمي الذاكرة!

" class="main-news-image img

صورة ومقطع فيديو قصير لأطفال وكبار يحملون حاجاتهم ويسيرون في طرق وعرة، يحاولون تفادي الصواريخ، هذا يحمل حقيبة ملابس، وآخر يحمي قطته، وثالثة تتشبث بأدوات مدرستها وبعض الطعام. مشهد وثقته الكاميرات على هامش المعارك الدائرة في محيط قطاع غزة بالأراضي الفلسطينية، حيث يتعرض السكان هناك على مدار أسبوعين للقصف من الجيش الإسرائيلي، ويتنقلون من مكان إلى آخر آملاً في النجاة وإنقاذ ذكرياتهم وذاكرتهم.

 

اللقطات الواقعية التي جرى التقاطها تتماس بقدر كبير مع نظيرتها التي جسدتها الشاشات العربية مراراً في محاكاة لنكبة 1948، حينما جرى نزوح ما يقرب من 700 ألف فلسطيني بعد تدمير نحو 500 من القرى والبلدان، فعلى رغم أن حقيقة ما جرى في عمليات التهجير كان شديد القسوة، لكن غالبية من يحتفظون بصورة له حصلوا عليها من الدراما التي أمعنت في استعادتها واستحضارها بكثافة وبأعمال عدة.

 

إنه الواقع الإنساني بلا دعاية أيديولوجية ولا شعارات سياسية رنانة، قدم من خلال أداء متقن وصدقية لا تخطئها الذائقة الفنية، على الأقل في مجموعة بارزة من الأعمال التي تناولت معاناة الشعب الفلسطيني، ومثلما تبدو دراما الحربين العالمية والثانية حاضرة على الدوام في أرشيف السينما العالمية، وكذلك الإنتاجات التلفزيونية، يبدو الصراع العربي- الإسرائيلي، لا سيما الشق المزمن المتعلق بالأراضي الفلسطينية وجبة أساسية في تاريخ السينما والتلفزيون في العالم العربي، وإن كانت هناك أفلام أيقونية تناولت هذا الصراع، لكن تظل المسلسلات التي قدمت بهذا الشأن أكثر التصاقاً بالوجدان الشعبي، حيث يتماهى الجمهور مع حلقات طويلة تستعرض قصصاً لشخصيات تتسم بالبطولة والشجاعة، قليلة العتاد لكنها لا تخشى مجابهة قوة هائلة تستخدم أحدث الأسلحة، واللافت أن كثيراً من المسلسلات المهمة التي تناولت القضية ليست فلسطينية الإنتاج، حيث إن أغلب الدول العربية كان لها نصيب في تقديم هذا النوع من الدراما، وعلى رأسها شركات الإنتاج في سوريا والأردن.

 

دراما الأزمات التاريخية

 

وإذا كان مجموع سنوات الحربين العالميتين لا يتجاوز العشرة، وقدمت حولهما مئات الأعمال التي سكنت الوجدان نظراً إلى التركيز على القضايا الإنسانية من خلالها، واستعراض تأثيرات القرارات السياسية والعسكرية شديدة الوطأة على مجريات حياة الأبطال وتطلعاتهم مهما كانت بسيطة والتي تتحول إلى آلام عادة، فإن الصراع العربي- الإسرائيلي تجاوز عامه الـ 75 بالتالي من الطبيعي أن يكون محوراً أساسياً لعديد من الأعمال الفنية، نظراً إلى تداعيات تلك القضية على مجريات حياة كثيرين، لا سيما في الدول الأقرب للأراضي المحتلة.

 

وفي مصر على سبيل المثال هناك عشرات الأفلام عن حرب أكتوبر، لكن أيضاً أرشيف المسلسلات يتضمن أعمالاً شهيرة تضيء على حربي الاستنزاف وانتصار أكتوبر، وتبين تأثيرات نكسة 1967، ومن أبرزها "رأفت الهجان"، و"دموع في عيون وقحة"، و"السقوط في بئر سبع"، التي حكت قصصاً تستند إلى وقائع بملفات الاستخبارات المصرية.

 

لكن الدراما السورية وكذلك الأردنية كانتا الأكثر اهتماماً باستعراض القضية الفلسطينية، وقد يكون مسلسل "التغريبة الفلسطينية" أردني الإنتاج سوري الهوى، للمخرج الراحل حاتم علي والمؤلف الفلسطيني وليد سيف، من أكثرها انتشاراً عربياً، حيث جسد فيه جمال سليمان وتيم حسن وباسل خياط ومكسيم خليل أدوار البطولة، وكان معهم الفنان الراحل خالد تاجا الذي قدم واحداً من أهم وأشهر أدواره عربياً بأداء بارع لا ينسى، إنه صالح أبو أحمد رب العائلة المتعثرة ضيقة الحال التي تمتلك رصيداً هائلاً من المثابرة، وعلى رغم القتامة الشديدة التي سيطرت على الأجواء، فإن العمل يحظى بمشاهدة عالية كلما أعيد عرضه، بخاصة أنه من المسلسلات القليلة التي استحضرت مجتمع الريف الفلسطيني من خلال أسرة قاست الأهوال منذ الانتداب البريطاني مروراً بالنكبة ومأساة التهجير وصولاً إلى حرب 1967، ومع ذلك ظلوا متمسكين بقيمهم الوطنية.

 

مسلسل "التغريبة الفلسطينية" كان شديد التكامل حتى فيما يتعلق بشارتي المقدمة والنهاية بصوت المطرب السوري عامر حسن الخياط، وهما يعتبران من أشهر أغنيات المسلسلات العربية ذات الطابع التاريخي على رغم مسحة الحزن الواضحة التي قد تصل إلى الجنائزية، وهما من كلمات الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان الذي توفي قبل النكبة بنحو سبع سنوات، ومع ذلك تبدو الأبيات منطبقة تماماً على شخصية البطل، حيث كان موضوع القصيدة عن فدائي يقوم بعمليات ضد المحتل الإنجليزي.

 

سوريا والأردن تتفوقان

 

هذا العمل الأكثر تفرداً في سردية الاضطهاد الفلسطيني وفي ابتداع صور للمقاومة الشعبية البعيدة من أي جماعات تنظيمية، عبر أبسط الإمكانات وأقلها كلفة، بحسب ما صرح عدد من صناعه، ففي أثناء التصوير كان ينخرط كثيرون منهم في نوبات بكاء هيستيرية لا سيما في مشاهد التهجير نظراً إلى استدعاء إرث قاتم السواد عن مواطنين سلبوا أرضهم وحياتهم حرفياً، بحسب ما كان قد أشار مخرجه الراحل حاتم علي الذي نشأ في حي الجولان السوري المحتل، وفي العام نفسه قدمت سوريا عملاً آخر عن فترة النكبة كذلك وهو "عائد إلى حيفا" عن رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني 9 أبريل/نيسان 1936 ـ 8 يوليو/تموز 1972، التي تحمل الاسم نفسه، وأخرجه باسل الخطيب الذي قدم قبل ثلاثة أعوام واحداً من أبرز الأعمال أيضاً في هذا الصدد "حارس القدس" الذي تناول سيرة حياة المطران هيلاريون كابوتشي وهو مسلسل حاول الخروج من الدائرة نفسها المعتادة، عن طريق لفتات إنسانية بحياة المطران الذي رحل عام 2017، وكان على رأس كنيسة الروم الكاثوليك بالقدس منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، وتقاطعت مسيرته مع عشرات الأحداث من اجتياحات وحروب وحصار حيث كان له دور فعال للغاية بسبب مكانته الدينية الرفيعة.

 

وكانت سبقت تلك التجارب مسلسلات عدة، من بينها "عز الدين القسام" 1981 للمخرج هيثم حقي وبطولة أسعد فضة، ومنى واصف، حيث تشير تلك المحاولات الدائمة إلى أن الدراما السورية تتعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها الابنة الشرعية لها، فمهما كانت هناك أزمات تعصف بحركة الإنتاج فإن هناك أيضاً مكاناً لحكاية جديدة حتى لو كانت جميعها تدور في فترة تاريخية بعينها ولا ترغب في أن تتجاوزها.

 

حضور دولي وعقبات إنتاجية

 

أما مسلسل "الاجتياح" فقد حقق انتشاراً دولياً بحصوله على جائزة الإيمي عام 2008، وقد أكد صناعه أكثر من مرة، تلقيهم تهديدات بالقتل، فيما الشركة المنتجة وهي المركز العربي للإنتاج أصدرت بياناً للرد على تلك التهديدات وقتها جاء فيه أن "الاجتياح استطاع أن يقترب من الواقع الفلسطيني المعاصر، من دون أن ينزلق إلى الحساسيات الداخلية، ومتجنباً التعرض لأجواء الخلافات على الساحة الفلسطينية، ويمثل المحاولة الأبرز للتعرض للمواضيع الاجتماعية والسياسية الراهنة والمعاصرة".

 

والعمل الذي عرض عام 2007، استعرض أحداثاً معاصرة بعيداً من الخطابات الشعاراتية الغارقة في مفارقات تاريخية وبكائيات لا طائل من ورائها، وكان يغلب عليه طابع إنساني وملامس للواقع لكنه بعيد من الأجواء الحالمة التي من المستحيل أن تتحقق في ظل تناوله لأحداث حصار الجيش الإسرائيلي لكنيسة المهد ومخيم جنين عام 2002، من خلال قصة حب نشأت بين شاب فلسطيني وفتاة إسرائيلية، وشارك في بطولته مكسيم خليل وعباس النوري وصبا مبارك وإياد نصار، ومنذر رياحنة، وأخرج العمل التونسي شوقي الماجري، وكتبه الفلسطيني رياض سيف الذي قدم عام 2011 أيضاً مسلسل "بوابة القدس" حيث ركز على الأحداث المتسارعة بين عامي 1946 وحتى 1948 عقب سقوط حيفا وبدء موجات التهجير.

 

وفي حين أن هناك مسلسلات فلسطينية الإنتاج تعرض دوماً عن القضية، لكن كثيراً منها لم يكن بمستوى نظيرتها السورية أو الأردنية التي تستعين بكوادر فلسطينية مهمة في التأليف والتمثيل والإخراج، لكن الإنتاج نفسه يواجه عقبات بسبب الحصار ومحدودية الموارد، وعلى رغم أن الأعمال ذات الطابع التاريخي المأسوي عادة ما تحصد نسب مشاهدة عالية، وتكسب أحداثها التعاطف، لكنها لا تزال قليلة مقارنة بأزمات سياسية مزمنة أخرى بل وحتى محدودة الإطار الزمني.

 

ويعتقد الناقد الفني أندرو محسن أن السبب على الأغلب يعود إلى الشق الإنتاجي، لافتاً إلى أن "هذه النوعية من القصص، تحتاج لميزانية ضخمة، حتى لو كانت تتناول فصولاً حديثة نسبياً من الصراع، لكن طوال الوقت هناك عودة لما جرى قبل عقود مما يتطلب تجهيزات خاصة في ما يتعلق بالملابس والديكورات تتكلف أموالاً كبيرة ومجهوداً ضخماً، لتحقيق أفضل صورة، إضافة إلى مجهود المعالجة الدرامية لفكرة العمل لأن هناك تفاصيل متشعبة تستحق أن تحكى والفكرة هنا في كيفية نقلها على الشاشة بأعلى قدر من المصداقية والحرفية وبعيداً من المباشرة الفجة".

 

أفلام عالمية

 

وفي حين لم تتأخر الإنتاجات الفلسطينية عن التعبير عما يعيشه المواطن جراء تلك الأوضاع من خلال مسلسلات تعرض في مواسم متعددة لا سيما شهر رمضان، لكن ظلت السينما هي الأقوى تأثيراً، من خلال أعمال إبداعية رفيعة المستوى ببصمات فلسطينية ومنها "غزة ومنامور والهدية و200 متر ويد إلهية وعمر، وملح هذا البحر، والجنة الآن والزمن الباقي"، حيث حصدت إشادات دولية وجوائز عدة، بالمقابل كانت المسلسلات من دول عربية أخرى قادرة على الوصول لجميع المشاهدين في المنطقة كون ظروف تسويقها أفضل والعملية الإنتاجية أقل تعقيداً، وأيضاً لسهولة الاستعانة بنجوم كبار في تقديم الأدوار الرئيسة بها، ومنها "أنا القدس والشتات، وحضور في موكب الغياب" والأخير عرض العام الماضي من إخراج عمار رضوان وبطولة ديما بياعة ومنذر رياحنة وجهاد عبدو وريم علي.

 

وعلى رغم تكرار أحداث مفصلية بعينها في تلك الأعمال لكنها تجد دوماً مشاهداً مخلصاً لها، لا يمل من تعدد استعراض الوضع السياسي والاجتماعي والإنساني حتى ولو من الزاوية نفسها، وهو ما يفسره الناقد أندرو محسن بالقول إن "هناك عوامل كثيرة تسهم في تحقيق رواج لهذا النوع من المسلسلات منها الحساسية السياسية".

 

وتابع: "أيضاً الرغبة في متابعة تجاوزات الطرف الآخر التي لا تأخذ حقها من التغطية بشكل متوازن، سواء في فترة النكبة نهاية أربعينيات القرن الماضي، أو في الاجتياحات المستمرة على مدار عقود وحقب طويلة في ظل اتفاقات وتعهدات بالسلام لم تتحقق".


الحجر الصحفي في زمن الحوثي