العبقري الذي وجد ضالته في المرأة

كتب
الثلاثاء ، ٠٩ اكتوبر ٢٠١٢ الساعة ٠١:٠٥ صباحاً

بقلم: د.عمر عبد العزيز -

لا يخلو كتاب من كتب التوثيق للفن التشكيلي العالمي إلا وكان الفنان الفلورنسي الكبير ليوناردو دافنشي في الصدارة منه، فالمعروف عن ليوناردو أنه عاش في عصر النهضة بإيطاليا، في القرن الثاني عشر الميلادي، وتاخم القرن الثالث عشر. وكانت ايطاليا يومئذٍ تموج في بحر من ظلمات الكنيسة البابوية الكاثوليكية المتحالفة مع إقطاع القرون الوسطى، وكان المجتمع الايطالي يمور بالخلافات والجدل الواسع، بل إن بعض العلماء المجتهدين تعرضوا للحرق والقتل والتعذيب والسجن، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر “جوردانو برونو” المشنوق حرقاً مع كتبه، و“جاليليو جاليلي” المسجون حتى الاعتراف بأن الأرض ليست كروية، والتنصُّل مما ورد في مقولاته الفلكية الإجتهادية.
كان الناس حينها يتوزّعون إلى فئتين كبيرتين. فئة العوام من الفقراء، وفئة النبلاء المُتخمين بالمال، وكانت المرأة في تلك المجتمعات تمثل النموذج المتداعي مع نواميس الحياة واستحقاقاتها الباهظة. فإذا كانت المرأة النابعة من فقراء الشعب مستغرقة في العمل والكفاح اليومي الشاق، فإن نساء القصور النبيلة كُنّ في حالة يقظة دائمة، وإحاطة شاملة بما يجري من مؤامرات ودسائس، وكُنّ يمثلن الركن الركين في تأمين المُلك والتوازن.
أدرك ليوناردو دافنشي هذه المكانة الخاصة للمرأة النبيلة، وسجّل مفهومه الخاص لتلك المرأة، من خلال لوحته الأشهر (الموناليزا)، التي أضْحت أكثر اللوحات شهرة في العالم، وأندر اللُّقى الفنية، وأكثرها قيمة مادية إلى يومنا هذا، حتى تبارى كبار النقاد والدارسين والشارحين في محاولة منهم لاستسبار واستكناه مقاصد دافنشي من ذلك العمل الفني الرفيع.
حاول كبار النقاد الإمساك بالميزة الكبرى لهذه اللوحة، ولاحظوا تلك الإبتسامة الغامضة حمّالة الأوجه التي تشع من وجه الموناليزا، كما لاحظوا كيف أن لغة الاشارة في أطراف أنامل يديها تومئان إلى الأنثى المستغرقة في تعددية المعاني، تعبيراً عن تعددية الحضور الوجودي. تلك الأنثى تتوِّج مصفوفة ليوناردو الفنية التي تناولت ذات الموضوع بكيفيات مختلفة.
لكن هذا التناول المباشر لحقائق الحياة اليومية لم يكن مألوفاً في فنون عصر النهضة الأوروبية، فالكل كان منصرفاً لرسومات افتراضية مُستقاة من نصوص العهدين القديم والجديد، وكانت تلك الرسومات بمثابة ترجمان بصري لمحتوى الكتاب المقدس عند المسيحيين الكاثوليك، وكانت الكنيسة والنظام الإقطاعي يحرصان على اعتبار أن ما ورد في نصوص التدوين الديني يمثل العلم المطلق الذي لا يأتيه الباطل من قبل ومن بعد.
في مثل هذه الأحوال كان على ليوناردو أن يستغل عبقريته الفنية وموسوعيته العلمية الثقافية، ليتخطّى ذلك الجدار السميك بطريقة ذكية. ولقد وجد في عوالم المرأة منطلقاً مناسباً لتخطّي تلك العقبات، ففاض بسلسلة من الرسوم المُعبِّرة التي استكنه فيها عديد الأسئلة الوجودية والماورائية، مُتجاوزاً كلاسيكيات “رافائيل” و“مايكل انجلو”، مُبْحراً في زمنه الإبداعي الخاص الذي أحال موسيقى الظواهر المرئية إلى فن قائم بذاته .
كان ليوناردو عاشقاً للطبيعة.. مُستلهماً منها ..سابحاً في فضاءات تقلباتها .. رائياً لما وراء الظواهر. وكان على اعتقاد مؤكد بأن المرأة هي النموذج الاشمل لأنْسنة الوجود، وتجلَّي التوازن. ومن هنا جاءت رائعته “الموناليزا” التي ملأت الدنيا وشغلت النقد الفني قروناً من الزمان.

[email protected]

عن الجمهوريه 

الحجر الصحفي في زمن الحوثي