السؤال الصعب باليمن .. هل انتصرت الثورة الشعبية

كتب
الأحد ، ٢٦ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٠٢ صباحاً

 

بقلم: نصر طه مصطفى

بعد عام ونصف من انطلاق ثورة التغيير الشبابية الشعبية السلمية اليمنية، أجد دوما الحيرة في عيون الكثيرين -وخاصة فئة الشباب- وهم يتساءلون جهرا وسرا: هل انتصرت ثورتنا؟ وهل نحن ماضون على الطريق الصحيح؟! هل انتصرت ثورتنا ونحن انتخبنا نائب الرئيس الذي ثرنا عليه رئيسا جديدا، بينما لا يزال بعض أفراد عائلة الرئيس الذي خلعناه يسيطرون على معظم قوات الجيش والأمن وحزبه يدير نصف الحكومة؟!
وهل يكفي إسقاط شخص الرئيس علي عبد الله صالح وعائلته من السلطة لتحقيق أهداف الثورة؟! وهل تحولت الثورة بالفعل إلى أزمة سياسية نتيجة التدخل الإقليمي والدولي وفرض حل سياسي بإرادة خارجية وقرار دولي صادر عن مجلس الأمن؟!
مفترق الطرق
من يعود إلى أشهر قليلة بل ربما أسابيع سبقت خروج أول مجموعة طلابية شبابية تطالب -ولأول مرة في تاريخ اليمن المعاصر- بإسقاط النظام صبيحة يوم السبت 15/1/ 2011، أي في اليوم التالي لسقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.. من يعود إلى تلك الفترة سيجد أن آخر ما كانت المعارضة تفكر فيه حينها هو القيام بثورة شعبية سلمية، فرغم نجاحها في الضغط على الرئيس صالح بخصوص إجراء انتخابات نيابية نزيهة مما جعله يفضل تأجيل الانتخابات والتمديد لمجلس النواب القائم، فإنه تجاوز الاتفاق السياسي الذي وقعه مع المعارضة (أحزاب اللقاء المشترك) في يوليو/تموز2010، وأراد إنجاز تعديلات دستورية تمكنه من إلغاء النص الموجود في الدستور بحصر فترة الرئاسة في دورتين انتخابيتين فقط، ليمدد لنفسه في الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة عام 2013، حيث سيكون حينذاك قد أكمل فترة حكم متواصلة امتدت 35 عاما
عند هذه اللحظة المفصلية بدت الطرق مفترقة كليا بين صالح ومعارضيه، في حين كانت الثورة التونسية قد انطلقت دون أن يأبه بها كثيرون أو تلفت أنظارهم إلا في أيامها الأخيرة، حيث ظهر الدكتاتور بن علي في أضعف حالاته وقد فشلت أجهزته الأمنية في قمع الثورة. وتصادف في ذات الفترة وجود وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في صنعاء لساعات قبل يومين فقط من سقوط بن علي، والتقت بالمعارضة اليمنية وسألت قادتها بصراحة -كما تسرب حينها- هل لديكم البديل عن صالح؟!
لا أظنها حصلت على الجواب الذي تريده، بل إن هذا الجواب لم يتوفر حتى عندما أصبحت الثورة الشعبية اليمنية في ذروتها، بل ولم يتوفر حتى في اللحظات التي انتهت فيها شرعية الرئيس صالح عقب تورط نظامه في ارتكاب مذبحة جمعة الكرامة 18/3/2011 التي أدرك هو نفسه بحدسه السياسي أنها قد أنهت مشروعية حكمه، وأن العالم كله أسقط هذه المشروعية، ومن ثم فقد آن الأوان للبحث عن البديل.
وبينما بدأ صالح بالبحث عن بديل ضعيف يخلفه لعامين يتم خلالهما تهيئة نجله للرئاسة، استبعد من الوهلة الأولى نائبه عبد ربه منصور هادي من أن يكون أحد خياراته، ليس فقط لأن علاقتهما الثنائية لم تكن على ما يرام، بل لأنه يعرف معدن نائبه القوي إن تولى قيادة البلاد، والأخير قبِل على مضض أن يظل نائبا صوريا قرابة 17 عاما لأسباب كثيرة ليس منها ضعف شخصيته، فهو يمتلك مواهب قيادية يعرفها صالح جيدا، ناهيك عن أنه عسكري محترف ومؤهل.
لذلك لم يكن صالح يرغب في أن يكون هادي هو المرشح البديل عنه، ولولا محاولة اغتياله -أي صالح- التي حدثت في جامع دار الرئاسة يوم 3/6/2011 لوقع خياره على شخص آخر، إلا أن الحادثة فرضت هادي باعتباره نائب الرئيس كخيار وحيد لإدارة شؤون البلاد خلال رحلة العلاج الطويلة التي اضطر إليها صالح بعدما نجا من الموت بأعجوبة.. وكما لو أن القوى السياسية والمحيط الإقليمي والمجتمع الدولي اكتشف القدرات القيادية لدى هادي في فترة قيامه بمهام الرئيس، فأصبح هو خيارها الوحيد لخلافة صالح، وهذا ما كان.
الحل السياسي منذ البداية
كانت المعارضة (أحزاب اللقاء المشترك) تتفاوض مع صالح إلى عشية مذبحة جمعة الكرامة على اتفاق سياسي يقوم على تشكيل حكومة إنقاذ ترأسها هي، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية العام نفسه لا يترشح فيها صالح، لتجنيب البلاد كل الخيارات الصعبة والقاسية ومن بينها انهيارها الكامل أو تشظيها أو نشوب حرب أهلية، لكن الرجل كان يساوم ويماطل على أمل أن يتمكن من القضاء على الثورة الشعبية السلمية التي كانت تتسع مساحتها يوما بعد يوم.
وفور تورطه في المذبحة البشعة يوم جمعة الكرامة التي تسببت في نزع مشروعيته وإقالة حكومته واستقالة الكثير من قيادات الجهاز المدني وإعلان أهم قادة الجيش تأييدهم للثورة الشعبية وفي مقدمتهم رفيق عمره ورجله القوي اللواء علي محسن صالح، بدأ لتوه في البحث عن حل سياسي خارجي فطلب تدخل المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة
ومنذ ذلك الحين بدأ العمل على إنجاز حل سياسي يقوم أساسا على إنهاء حكم الرئيس صالح -أو بعبارة أدق: خروجه كليا من الحياة السياسية- مقابل حصوله على حصانة قضائية كاملة طرحت منذ اللحظة الأولى، فيما يتم إعادة ترتيب أوضاع أفراد عائلته الذين يديرون رسميا أهم قوات الجيش والأمن، ويديرون فعليا معظم شؤون الدولة بما في ذلك الجهاز المدني.
وعلى ذلك يمكننا القول إن طرفي المعادلة السياسية اليمنية الأساسيين وهما حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم وأحزاب اللقاء المشترك المعارضة، توافقا بصورة ضمنية منذ الوهلة الأولى على استبعاد خيارات الحسم بالقوة أو بالإسقاط الكامل للنظام عبر استمرار المظاهرات ورفض الحل السياسي، وعلى أساس أن يكون المخرج السياسي هو الخيار الوحيد، خاصة أن الثورة الشعبية رفعت شعار "السلمية" نهجا لها والتزمت به، وواجهت الرصاص الموجه نحو شبابها المعتصمين في الساحات الرئيسية في معظم محافظات البلاد بصدور عارية، فلم يحملوا قطعة سلاح واحدة في مواجهة عمليات القمع والاستهداف التي ظل نظام صالح يمارسها إلى عشية توقيع المبادرة الخليجية في الرياض يوم 23/11/2011 والتي طوت نهائيا وإلى غير رجعة عهد الرئيس صالح.
ثورة ليست استئصالية
يصعب القول إن الثورة الربيعية اليمنية حققت انتصارا كاملا، لكنها بالتأكيد حققت نصف نصر -بل يمكن أن يكون أكبر من ذلك- بأقل ثمن ممكن من الدماء والضحايا إذا ما تم النظر إلى ظروف اليمن ودرجة انتشار السلاح فيه، وإلى الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الليبي مقابل انتصار ثورته ضد معمر القذافي، وما يدفعه الشعب السوري من أثمان باهظة حتى هذه اللحظة من أجل حريته وخلاصه من نظام بشار الأسد الاستبدادي.
فلم تكن الثورة الشعبية اليمنية منذ الوهلة الأولى ثورة أحزاب ضد حزب ولم تكن استئصالية، ذلك أن الآلاف من أعضاء حزب صالح نفسه انضموا إليها منذ اللحظات الأولى باعتبارهم كانوا أيضا متضررين من نظامه الذي -وإن لم يصل في استبداده إلى ما كان عليه الحال في سوريا وليبيا- كان غارقا في الفساد وفي مسخ الحياة السياسية وتكريس نفوذ عائلته، وكانت كل تلك الأمور تسبب استفزازا لأحرار المؤتمر الشعبي العام الحاكم تماما كما كانت تسبب استفزازا لكل قوى المعارضة. ومع وصوله إلى ذروة الاستبداد عقب انطلاق الثورة الشعبية بممارساته القمعية المتعددة الأشكال، حقت عليه سنن الله في سرعة السقوط.
وإذا كان صالح أكثر ذكاء من أقرانه العرب بميله إلى الحل السياسي مقابل حصوله على الحصانة وسلامة ثروته الشخصية وثروات أفراد عائلته، فإن ذلك لا يعني بحال من الأحوال إمكانية استمراره في النشاط السياسي عبر استمرار رئاسته لحزبه، فأي مراقب سياسي لا يمكن أن يفوته أن هذا الأمر حالة مؤقتة مهما طال.
ولعل حصافة صالح غابت عنه بإصراره حتى الآن على رئاسة الحزب وعدم تخليه عنها لنائبه الأول في الحزب الرئيس عبد ربه منصور هادي، إذ إن كل يوم يمضي يؤدي إلى خسارة صالح المزيد من أنصاره في الحزب والشارع، خاصة بعدما بدأت ثقة المواطنين تتعزز في أداء الرئيس الجديد الذي أثبت أنه رجل دولة قبل أن يكون رجل سياسة، وأن لديه الإرادة الكاملة لاستعادة هيبة الدولة وبسط سيادتها على كامل أراضيها.
فرغم أن الرئيس السابق ما زال يسيطر على عدد من وحدات الجيش القوية التابعة لنجله أحمد قائد الحرس الجمهوري، فإن هادي يتعامل مع هذا الأمر بحصافة سياسية وصبر كبير ودقة شديدة وخبرة عسكرية لا يمكن الاستهانة بها، مستندا إلى تأييد شعبي كبير لم يكن يتوقعه حصل عليه في الاقتراع على رئاسته يوم 21 فبراير/شباط الماضي، وإلى دعم إقليمي ودولي لم يسبق أن حظي به أي رئيس عربي، ناهيك عن أن يكون يمنيا.
انتصارات متدرجة
صحيح أن هادي لم يأت رئيسا لليمن من صفوف الثورة الشعبية، لكن ذلك لم يكن ضروريا ما دام أن هناك توافقا على خروج صالح وعائلته من الحكم بشكل سلمي، فذلك يشكل الهدف الأول والأهم للثورة التي لم تقم أصلا إلا لأجل تحقيق هذا الهدف بدرجة أولى، تليه بقية الأهداف وفي مقدمتها بناء دولة مدنية حقيقية تقوم على احترام الدستور وسيادة القانون والحكم الرشيد والديمقراطية الكاملة.
ومع النص على الكثير من أهداف الثورة ضمن الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، فإن الرئيس هادي أخذ يمضي قدما في تجسيدها رغم كل المعوقات المعقدة سياسيا وأمنيا وعسكريا، وهو ما يجعلنا نثق بأن الثورة تحقق كل يوم انتصارا جديدا رغم بطء الخطوات
على أي حال، فإن بلدا كاليمن يصعب عليه تنفيذ كل أهداف الثورة بضربة واحدة أو قرار واحد، ليس فقط لاستحالة ذلك، بل لأن واقع اليمن المعقد يفرض التدرج، وهو ما يجعله يحتاج إلى سنوات من الجدية واستمرار الإرادة الثورية في التغيير حتى لا يحدث التفاف من أي نوع على تحقيق الأهداف المنشودة.
فعلى سبيل المثال، لا ينحصر المتضررون من إقامة دولة القانون في مخلفات نظام صالح، بل إن أطرافا أخرى ستتضرر من ذلك، وهي أطراف قد يكون بعضها مؤيدا للثورة أو مؤيدا للتغيير نتيجة خلافها السياسي مع صالح، وليس إيمانا بالثورة وأهدافها النبيلة.
ولذلك يجب أن يظل شباب الثورة مستيقظين لأنهم المستفيد الحقيقي من بناء الدولة المدنية باعتبارهم مستقبلَ اليمن وأكثرَ من ضحى من أجل التغيير.
لقد تميزت ثورات اليمن المختلفة بأبعادها الإنسانية التي تبحث عن حياة كريمة لم تكن تتوفر دوما إلا لقلة مستغلة، فثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 التي قامت في شمال اليمن ضد حكم الأئمة العنصري المستبد، كانت ثورة إنسانية بالدرجة الأولى، لأنها أنهت نظاما عاش اليمنيون في ظله حياة القرون الوسطى بكل ما تعنيه الكلمة. والأمر نفسه ينطبق على ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963في جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني وحكم السلاطين الذين عاش اليمنيون في ظلهما أسوأ حالات التخلف التي يمكن تخيلها.
وبالتأكيد لا يمكن نزع البعد الإنساني عن ثورة التغيير السلمية التي حدثت في العام الماضي، لأن نظام صالح في سنواته العشر الأخيرة افتقد -كنظام- كل قيمه الإنسانية، فأوصل اليمن إلى أسوأ الأوضاع المعيشية والاقتصادية منذ خمسين عاما، إذ انتشر الفقر بشكل غير مسبوق واستشرت البطالة وتراجعت التنمية، وكبر غول الفساد حتى أصبح المؤسسة الأقوى في اليمن، وأخذت فرص الحياة الكريمة تتراجع كل يوم أكثر فأكثر، تماما كما تراجعت فرص الهجرة للبحث عن فرص عمل بسبب تحول المواطن اليمني إلى مشتبه به نتيجة الاختلالات الأمنية التي تسبب بها الحكم بالفوضى الذي انتهجه صالح منذ عام 1997، منه ما هو بقصد ومنه ما هو بدون قصد.
وعندما وصلت الأحوال درجة الغليان ثار الشباب ولحق بهم الشارع اليمني بكل تياراته واتجاهاته، وكان حتما على صالح حينئذ أن تأكله الثعابين التي جعل منها وصفا لشعبه، فظل يرقص على رؤوس مواطنيه طوال ثلث قرن، وكلما كانت الثعابين تكثر كانت قدراته تتراجع حتى لحظة السقوط الأخير.
عن الجزيرة نت

الحجر الصحفي في زمن الحوثي