الإمـامـة الـزيـديـة.. تاريخ طويل من التمدد والانكماش!!

بلال الطيب
الخميس ، ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٠ الساعة ١١:٣٠ صباحاً

 

لاعتقادهم أن الله ميزهم عن الأمم الأخرى، وأنهم أقرب الشعوب إليه، عمل اليهود على تأسيس أول دولة دينية في التاريخ الانساني، تجسدت فيها صورة «الحاكم المُطلق» مبعوث العناية الإلهية، وهي الصورة ذاتها التي عمدت «الهاشمية السياسية» على استنساخها، وما «دولة الهادي إلى الحق» إلا مثال ناجز لتلك «الثيوقراطية»، أسسها في صعدة الإمام يحيى بن الحسين «280هـ»، بمساعدة «30,000» مقاتل قدموا معه من «فارس والعراق»، حينها كان علي بن الفضل الحميري يصول ويجول باليمن الأسفل، ساعياً لتثبيت دولة اسماعيلية باسم الفاطميين، تجاوز المهام الموكلة إليه وأستقل بالحكم لنفسه، وكانت مساهمته فاعله في كبح جماح تلك الدولة في مهدها، وحصرها في مناطق شمال الشمال، وحين توفى الإمام الهادي «298هـ» خلفه ولده المرتضى محمد، لتنتهي المرحلة الأولى لتلك الدولة بوفاة حفيده العباس منتصف القرن التالي.   عادت الخلافة العباسية لتمسك بزمام الأمور، وسيطر ولاتها «الزياديين واليعفريين» على أغلب مناطق اليمن، ليندمجوا فيما بعد في إطار دولة واحدة بقيادة حسين بن سلامة، لتتناثر البلاد بعد وفاته إلى ولايات وحصون متناحرة، قُسم اليمن الأسفل بين قبائل حمير، فيما اليمن الأعلى ظل التنافس فيه قائماً بين قبائل همدان وأئمة الزيدية من بيت القاسم العياني، الذي قدم إلى صعدة بدعوة من فقهاء مذهبه، وتولى الإمامة فيها «388هـ»، وقد عمدت هذه الأسرة على استحضار فكرة «المهدي المنتظر»، وقد كان للحسين العياني الذي تولى الإمامة بعد وفاة أبيه «393هـ» سبق السبق في ذلك؛ أدعى أنه «المهدي المنتظر» وحين قُـتـل في معركته الأخيرة مع خصومه الهمدانيين «404هـ» لم يصدق اصحابه خبر موته؛ لأن الاعتقاد لحظتها بأنه المهدي كان قد ترسخ في عقولهم.   اليمن في تلك الفترة كانت قبلة الوافدين الباحثين عن الزعامة والأنصار، وقد قَدِم إليها من طبرستان أبي الفتوح الديلمي «437هـ»، داعيا لنفسه بالإمامة، فأيدته قبائل «الكرسي الزيدي» من صعدة حتى ذمار، كما هي عادتها؛ حينها كانت الدولة الصليحية تتشكل، ليقضي مؤسسها الأول علي الصليحي على إمامة الديلمي في مهدها، وقد سعى التحالف «الإمامي القبلي» فيما بعد إلى إيقاف التمدد الصليحي، إلا أنه مني بهزائم متلاحقة، ولم يأت العام «455هـ» إلا وقد كون علي الصليحي دولة إسماعيلية شملت اليمن كله، وحين عمَّ خبر اغتياله الأرجاء، عمت الفوضى البلاد، وتصدى ولده المكرم بحزم لجميع تلك التمردات.   تجسد التمرد الزيدي بظهور إمامان في عام واحد، الأول يدعي أبي هاشم الحسيني، وقد لقي حتفه في أول مواجهة له مع الصليحيين، أما الثاني فيدعى جعفر العياني، صمد لسبع سنوات، وخدع أنصاره بظهور المهدي المنتظر؛ مستجلباً حكاية عمه الحسين العياني الذي سبق ذكره، وبعد أن تخلت القبائل عنه، تحول لمزارع في «ضيعة عمران» بالجوف، ليلقى مصرعه في النهاية عرياناً وهو يغتسل بـ «الغيل»، وبانتهاء الدولة الصليحية بوفاة السيدة أروى «532هـ» ظهر أحمد بن سليمان ونصب نفسه إماماً، مسيطراً على «الجوف وصعدة ونجران ثم صنعاء»، وقد دار بينه وبين السلطان حاتم اليامي الهمداني الاسماعيلي صراعاً مريراً أستمر لعدة سنوات، توفى بحيدان «566هـ»، وبعد وفاته بثلاثة أعوام قـدمَّ الأيوبيون إلي اليمن وقضوا على جميع الدويلات المتصارعة.   توحدت اليمن في عهد الحاكم الأيوبي سيف الاسلام طغتكين، وحين وافته المنية «593 هـ» أعلن عبدالله بن حمزة نفسه أماما للزيدية، وقد ساهمت الخلافات «الأيوبية الأيوبية» في تمدده حتى صنعاء ثم ذمار، وهي سيطرة لم تدم سوى بضعة أشهر، وكانت سبباً لأن يوحد الأيوبيين صفوفهم، ومن ثم مطاردته حتى «حوث» المدينة التي استقر فيها ردحاً من الزمن. الخلافات «الزيدية الزيدية» حينها بدأت تطفوا على السطح، في البدء تمرد يحيى ابن الإمام أحمد بن سليمان، لتتجسد الخلافات بصورة أعنف بظهور جماعة «المطرفية» الذين نكل بهم ابن حمزة اشد تنكيل، وقتل منهم خلق كثير.   حين أستقل عمر بن رسول باليمن عن حكم الأيوبيين «628هـ» كانت الإمامة الزيدية منكمشة، وبعد مضي أكثر من «17» عاماً من عمر الدولة الرسولية، أعلن أحمد بن الحسين من مدينة «ثلا» نفسه إماماً للزيدية، واستولى على معظم مناطق اليمن الأعلى، إلا أن السلطان الرسولي الجديد المظفر يوسف كان له بالمرصاد، تصدى له وأخرجه من صنعاء، ليقتل في النهاية على يد ثلاثة من قدماء أنصاره «656هـ»، وبعد تلك الحادثة بـ «16» عاماً أعلن إبراهيم بن تاج الدين نفسه إماماً، ولم يصمد سوى ثلاث سنوات، وكانت نهايته اسيراً في قلعة القاهرة بتعز، ليتوفى في دهاليزها «684هـ».   كان عهد الملك الأفضل عباس الذي تولى الحكم «764هـ» مليئاً بالتمردات، استعادت الإمامة الزيدية عافيتها بعد أن تعاقب عليها عدد من الأئمة الضعاف الذين لم يتجاوز سلطانهم مناطق محدودة، وبظهور صلاح الدين الهدوي بعد مقتل أبيه «770هـ» تغيرت المعادلة على الأرض، فقد كان هذا الإمام رجل حرب بامتياز، لا يكل ولا يمل من مقارعة خصومه، توغل جنوباً متجاوزاً المربع الزيدي في سابقة خطيرة لم يفعلها أسلافه، وكان وصوله إلى عدن «789هـ»، وبعد «12» يوماً مني بهزيمة نكراء، ليموت بذمار بعد ذلك بأربع سنوات متأثراً بجراحه، خلفه بالإمامة ولده علي، وكانت علاقته بالرسوليين هادئة ومستقرة، توفى «840هـ» بالطاعون الذي عمَّ اليمن حينها وفتك بالآلاف.   بانتهاء الدولة الرسولية «858هـ» أبتدأ عهد الطاهريين، الذين لم تدم دولتهم سوى «63» عاماً، فقد قضى المماليك على سلطانهم الثالث والأخير عامر بن عبد الوهاب، لتصبح أراضيهم ميراثاً سهلاً للمماليك ومن بعدهم الأئمة الزيود، اللافت في الأمر أنه بالتزامن مع دخول المماليك إلى اليمن، قضى الأتراك على دولتهم بمصر والشام، فما كان من قادتهم هنا إلا إعلان ولائهم للسلطان العثماني، وجعلوا الخطبة في صنعاء باسمه، كان لحظتها شرف الدين يحيى إماماً متوجاً للزيدية منذ «912هـ»، ولم يستقر حكمه إلا بخروج المماليك من صنعاء «924هـ»، وقد امتد سلطانه فيما بعد ليشمل إب ثم تعز.   ارسل العثمانيين حملة عسكرية إلى اليمن «945هـ»، وكان لحظتها الخلاف على أوجه بين الإمام الزيدي وولده محمد المطهر الذي اصبح الحاكم الفعلي، فيما بقيت الإمامة صورية باسم الأب الذي تفرغ للعبادة، الأمر الذي سهل للأتراك أن يتوغلوا شمالاً، وبعد دخولهم صنعاء وقع معهم المطهر معاهدة صلح، إلا أنه عاد ونقضها حين دب الخلاف بين العثمانيين أنفسهم؛ وقد استعاد صنعاء واجتاح عدن «975هـ» ، لتنحصر السلطة العثمانية في زبيد وما حولها من مناطق تهامه، بعد ذلك بعام واحد جهز العثمانيين حملة عسكرية كبيرة بقيادة سنان باشا، وفي عدن تحالف الأئمة الزيود مع البرتغاليين لصد تلك الحملة؛ واستطاع الأتراك بأقل من ثلاث سنوات استرداد أغلب مناطق اليمن، لتنتهي بوفاة المطهر «980هـ» إمامة أسرة شرف الدين، ولم يستطيعوا النهوض من جديد رغم عديد محاولات يائسة.   بعد ربع قرن من الاستقرار النسبي قلل العثمانيين من عدد قواتهم، فاستغل القاسم بن محمد «مؤسس حكم أسرة القاسميين» ذلك، وأعلن نفسه إماماً مسنوداً بعدد من القبائل المتحفزة، وبعد أن فشل الأتراك في تحقيق أي نصر عليه، اعترفوا بسلطانه على مناطق شمال الشمال، إلا أن المصالحة لم تدم طويلاً، لتتجدد المواجهات في عهد ولده الإمام المؤيد بالله محمد، الذي حقق إنتصارات خاطفة وسريعة، تجسدت بدخوله صنعاء «1038هـ» بعد تسعة أعوام من توليه الحكم، لينتهي العهد العثماني في اليمن « 1054هـ» بالتزامن مع وفاته. وقد أمتد حكم القاسميين إلى حضرموت في عهد المتوكل إسماعيل، الذي تولى الإمامة بعد أخيه المؤيد، وحكم اليمن لـ «33» عاماً؛ وقد كان شديد التعصب لمذهبه، ولديه فتوى شهيرة كفر بها إبناء المناطق الشافعية، والزمهم بدفع الجزية، والأسوأ من ذلك أن تلك التصرفات الرعناء صارت سلوكاً مُريعاً لازم غالبية الأئمة المستبدين من بعده.   بوفاة المتوكل إسماعيل «1087هـ» دخلت الدولة القاسمية نفقاً مظلماً، عمت الفوضى البلاد، وتفاقمت الصراعات الأسرية، وأعلنا أحمد بن الحسن، والقاسم ابن المؤيد نفسيهما إمامان لكل واحد منهما أرضه وأنصاره، ليستقر الأمر في النهاية على الأول الذي لم يمهله القدر، ليعود بعد وفاته الضجيج من جديد حول من يخلفه، ليقع الاختيار للمرة الثانية على محمد بن المتوكل إسماعيل، الذي سبق ورفضها بعد وفاة أبيه، وما قبلها إلا مُكرهاً بعد إجماع الناس والعلماء عليه، كان تقياً مشهوداً له بالاستقامة، وقد عمل جاهداً خلال سنوات حكمه القصير على إصلاح ما أفسده اسلافه، دون جدوى، فالفساد حينها كان قد تمدد واستفحل تماماً كـ «السرطان».

مناطق اليمن الأسفل كانت المتضرر الأكبر، الجبايات القاصمة أثقلت كاهل الرعية، والطائفية المقيتة أصابت الجميع بالغبن، ولم يكن أمام الرافضين من خيار سوى التمرد والثورة، ومن جبال يافع أعلن صالح هرهرة نفسه سلطاناً، لتتحد أغلب القبائل المجاورة تحت رايته، وأمتد سلطانه ليشمل عديد مناطق، أجملها أحد شعراء يافع بقوله: وتعز قد خذناها وخذنا قعطبة وإب والراحة ونجد والجاح استمر هذا الغليان لعقود، انكمشت فيها خارطة الإمامة الزيدية، وتشكلت سلطنات صغيرة عمت الجنوب اليمني، فيما «تعز وإب» عادتا من جديد لحكم الطغيان، واصطليتا بنيران الخلاف «الزيدي الزيدي» لأكثر من «100» عام.   بلغت الخلافات «القاسمية القاسمية» ذروتها حين تولى الإمامة المهدى محمد بن أحمد «صاحب المواهب» تكالب عليه أقاربه وحاربوه وكادوا يفتكون به، إلا أنه هزمهم ونكل بهم أشد تنكيل، وقد اشتهر بـأخذه للجبايات بدون وجه حق، وسفكه للدماء بمجرد الظنون، لتتجدد معارضته بقيادة ابن أخيه القاسم بن الحسين، بعد أن رغب الناس به وأرادوا أن يبايعوه، إلا أنه امتنع واقترح عليهم الحسين بن القاسم «صاحب شهارة»، واللافت في الأمر أنه في أوج ذلك الصراع ظهر إمام رابع يدعى الحسين بن علي؛ أعلن نفسه إماماً فبايعته صعدة وما جاورها، إلا أنه خلع نفسه وبايع «صاحب شهارة» الذي دخل صنعاء «1124هـ». المهدى من جهته ظل متمسكاً بالإمامة، متحصناً بـ «المواهب»، وحين أشتد عليه الحصار خلع نفسه وبايع الحسين، وحين خُلع هذا الأخير من قبل القاسم «1128هـ» امتنع المهدى، إلا أنه عاد وأذعن بعد ذلك بعام، وقد استمر حكمه حوالي «33» عاماً، والمفارقة العجيبة أن هذا الرقم أختزل سنوات حكم أسوأ من حكموا اليمن.   وبالنسبة للقاسم الإمام الجديد فقد لقب بـ «المتوكل»، استمرت في عهدة الاضطرابات، وأختلف مع أقرب الناس إليه ولده الحسين، الذي تولى الإمامة من بعده «1139هـ»، ولقب بـ «المنصور»، ليختلف هذا الأخير مع أخيه أحمد «حاكم تعز» الذي أعلن هو الأخر نفسه إماماً منفصلاً بالمناطق التي يحكمها، وقد تم تسوية الخلاف بينهما ببقاء تعز ومخاليفها تحت نفوذ الأخير، على أن يعلن ولاءه لأخيه، توفى المنصور «1161هـ» وخلفه ولده المهدي عباس، الذي انقطعت في عهده الصراعات، وعاشت الدولة القاسمية في استقرار مشوب بالحذر لسنوات محدودة.   الإمام المهدي بن عبد الله هو آخر الحكام القاسميين الأقوياء، تميزت فترة حكمه التي استمرت «20» عاماً بالاستقرار النسبي، وحين توفى «1251 هـ ـ 1835م» تولى الحكم ولده «علي»، لينقلب عليه بعد سنة وثلاثة أشهر ابن عمه عبدالله «الناصر»، وفي أوج ذلك الصراع المرير، عادت الثورات لتشمل «إب وتعز» بعد خنوع دام عقود، كانت حينها قوات محمد علي باشا رابضة في ميناء المخاء تستعد للإنقضاض على اليمن، وبمساندة قبائل تلك المناطق استطاعت تلك القوات أن تفتك بقوات الإمام «الناصر»، الذي هرب ناكصاً صوب صنعاء، وبالتزامن مع احتلال الانجليز لعدن، انسحبت قوات محمد علي باشا، ليبقى اليمن الأسفل مستقلاً محكوماً بالفوضى والفراغ، والمفارقة العجيبة أن الأئمة لم يعترضوا على وجود الإنجليز في عدن، بل طلبوا منهم المساعدة من اجل استعادة تهامة من أمراء «أبي عريش»، والأعجب أنهم عرضوا عليهم اقتطاع ما يودون من الأراضي اليمنية مقابل ذلك.   وسط تلك الظروف العصيبة، تشكلت حركة صوفية بقيادة الفقيه سعيد بن صالح المذحجي، الذي أعلن نفسه إماماً للشرع، وتمكن في وقت قصير من تقوية سلطته، والحد من سطوة المشايخ الإقطاعين القادمين من الشمال، الذين سبق وأن استوطنوا الأراضي الخصبة من اليمن الأسفل بإيعاز من الأئمة أنفسهم. أمتد سلطان الفقيه من «يافع إلى زبيد، ومن تعز حتى تخوم يريم»، وفي هذه الفترة كان الإمام محمد «الهادي» قد تسلم الإمامة في صنعاء «1840م» بعد اغتيال «الناصر»، وقد دارت بينه وبين الفقيه سعيد معركة وحيدة وفاصلة، كان النصر فيها محسوم في البداية للشوافع، إلا أن خيانة بعض القبائل قلبت المعادلة، وتحول النصر إلى هزيمة، ليشنق الفقيه الثائر بمدينة إب وقد تجاوز عمره الثمانين، وفي إب أيضاً قامت ثورة بقيادة مارش المحمدي، إلا أن «الهادي» قضى عليها في مهدها، وفي الحجرية تكونت زعامة شعبي بقيادة نعمان البناء، الذي جمع هو الأخر بين الشرع والتصوف، لتبدأ بذلك الزعامة السياسية لبيت النعمان. كان لفتح قناة السويس «1869م» أثره في معاودة الأتراك لاحتلال اليمن مرة أخرى، وهو الوجود الذي تمدد ليشمل أغلب المناطق اليمنية جنوباً وشمالاً وشرقاً حتى حضرموت، إلا أنه عاد وأنحسر بفعل الضغط الانجليزي، كانت الإمامة القاسمية حينها تعيش أسوأ انكماشه لها، وفي العام «1902م» عادت لتتمدد بعد أن قاد الإمام الجديد محمد حميد الدين مقاومة عنيفة ضد الأتراك، وبعد وفاته بعامين خلفه ولده يحيى في المقاومة والإمامة. اتفاقية صلح دعان «1911م» بينه والاتراك أعطته حكماً ذاتيا للمناطق الزيدية من اليمن الأعلى، لتطوى بذلك صفحة قاتمة لصراع كلف الجانبين آلاف الضحايا، ولم يعد الاتراك بعدها «كفار تأويل» مهدوري الدم، كما لم يعد الإمام خارج عن طاعة الخلافة يجب إخضاعه، وبعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، بات خروج الأتراك من اليمن أمر حتمي، وكي لا يقع ميراث إمبراطورتيهم العجوز بيد الانجليز، اضطروا لتسليم الحكم للإمام يحيى، بعد أن تعذر وجود البديل. وفي «العماقي» بمدينة القاعدة، عقد مشايخ وأعيان اليمن الأسفل مؤتمراً من أجل تحديد مستقبل مناطقهم، بعيداً عن سلطات الإمام الجديد، إلا أن المؤتمر فشل بسبب التنازع بين المشايخ المجتمعين، حينها كان الاستيلاء على مناطق اليمن الأسفل طموح يراود الإمام يحيى، وقد كان التصدي الأول لجحافله المتوغلة جنوباً في منطقة «حبيش»، وهناك دارت معارك شرسة استمرت لمدة ستة أشهر، بعد انتصارها اتجهت قواته صوب الحجرية، لتسقط بعد عاميين من المقاومة «قلعة المقاطرة» الحصينة، بعد أن كبدت الغزاة مئات الضحايا، وما كان لها أن تسقط لولا الخيانة التي جبل عليها مشايخ تلك المناطق، ولم يكتفي جنود الإمام بالقتل والتنكيل والسلب، بل عمدوا على نسف جميع منازل المواطنين، وهم يرددون: «يا حجرة اليهودي، روحي ولا تعودي». وبالرغم أن باقي مناطق اليمن الأسفل لم تكن مستعصية، ورضخت لحكم الإمام من الوهلة الأولى، إلا أن ذلك لم يشفع لها، واستمر هذا الأخير بإرسال الحملات العسكرية لتركيع وإذلال سكان تلك المناطق، كانت الوحشة قائمة على أشدها بين الوافدين قواداً وعساكر وبين المواطنين، ولم يستريح الأئمة إلا بالقضاء على الشخصيات القيادية المحلية بشتى الوسائل، كما عملوا على اختلاق المعاذير لابتزاز المواطنين ونهب ممتلكاتهم، وقد كان العسكري القادم من الشمال مجاهداً في سبيل الله، بينما الرعوي المسكين ابن البلد واحداً من إخوان النصارى، يستحق كل ما يجرى له. توالت الثورات ضد الإمام يحيى في صنعاء والجوف وحاشد، وبعد إخمادها تم استعادة تهامة وميناء الحديدة من الأدارسة، لتأتي بعد ذلك الثورة الحقيقية لقبائل الزرانيق، لتحسم حركة المعارضة أمرها بثورة دستورية لم تتجاوز العباءة الزيدية «1948م» ، الإمام أحمد من جهته استغل حادثة مقتل أبيه وحشد الحشود، وأرسل رسالته الشهيرة لابن الوزير: «..وإني زاحف إليك بأنصار الله الذين سترى نفسك تحت ضرباتهم معفراً..»، وبدعم سعودي دخل صنعاء ومعه قرابة «250,000» مقاتل، لا هدف لهم إلا النهب وتدمير العمران، وبعد «14» عاماً لقي حتفه بعد عديد محاولات فاشلة لاغتياله، لم يهنأ ولده الإمام البدر في الحكم سوى بضعة أيام، هرب بصعوبة بعد أن أعلن الثوار بقيادة قائد حرسه قيام النظام الجمهوري، ومن الحدود السعودية أعلن بمؤتمر صحفي أن معظم الأراضي اليمنية لا زالت تحت سيطرته، وأنه زاحف لاستعادة مُلكه المسلوب.   ثبت النظام الجمهوري أركانه في مناطق اليمن الأسفل، أما مناطق اليمن الأعلى فقد كانت متذبذبة لا تستقر على حال، وبازدياد تدفق المال والسلاح من العربية السعودية بدأ الملكيون بإنشاء مراكز قيادة في الكهوف والأماكن الحصينة، أستنجد الجمهوريون بعبد الناصر فأمدهم بسرية ثم عززها بـ «70,000» جندي؛ لتساهم مزاجية اللاعب الأجنبي في تعميق الفجوة بين الفرقاء، كما كان لحالة «اللاوفاق» الجمهوري و«الوفاق» الملكي أثره في ترجيح كفة الأخيرين، دبَّ اليأس حينها في النفوس، وبدأ البعض يتذمر ويعلنها صراحة بأن لا حل إلا بإقامة دولتين، «زيدية» في الشمال و«شافعية» بالجنوب، كان شباب الثورة حينها أكثر حماساً وتمرداً على الواقع، وحين هرب القادة الكبار تولوا مهمة الدفاع عن الجمهورية بعزيمة لا تقهر.   عقد الملكيون مؤتمر «الخزائن»، وبدأت جحافلهم قفزاتها من أقصى الشمال إلى أسوار صنعاء، أما التجمعات الجمهورية فقد تركتها القوات المصرية ضعيفة مُفككة الأوصال، لا يتجاوز عددها الأربعة آلاف جندي، وما أن اقترب الخطر، حتى أخذت تتقارب وتتجانس، لم يكن حينها للبدر أي تأثير في صفوف الملكيين، فعبد الله بن الحسن كان هو المحرك الفعلي، وقد تكفل بوضع خطة الهجوم عدد من كبار القادة العسكريين المرتزقة وعلى رأسهم الجنرال الأمريكي «كوندي»، تم حشد حوالي «70.000» من رجال القبائل، و«10.000» جندي نظامي، إلى جانب وحدات عسكرية تجمعت من «بلجيكا وفرنسا وأمريكا وإيران وإسرائيل وجنوب أفريقيا». كطرفي كماشة أطبقت «حشود النصر» على القوات الملكية المتمركزة بـ «عيبان»، قوات مُسلحة ومقاومة شعبية خرجت من صنعاء بقيادة عبد الرقيب عبد الوهاب، ومن الحديدة خرجت قوات أخرى مدعومة بقوات شعبية بقيادة أحمد عبد ربه العوضي، كان صباح «8 فبراير 1968م» زاهياً بالنصر، وصنعاء العصية على السقوط أصبحت «مدينة مفتوحة».   عاد «الهاربون» وقد استجلبوا معهم مناطقيتهم وأحقادهم الدفينة، عمدوا على قصقصة أجنحة أبطال تلك الملحمة «أبناء الرعية الشوافع»، وتسريحهم من الجيش، وقتل وسحل قاداتهم، والتمثيل بجثثهم في شوارع صنعاء، حينها كان التحالف الزيدي بشقيه «القبلي ـ الهاشمي» يتشكل بصمت، ليزداد قوة ومتانة بعد المصالحة الوطنية «1970». صحيح أن الإمامة الزيدية عادت لانكماشتها الاعتيادية، إلا أن عودة أعضائها الفاعلين لتقاسم السلطة، وممارسة مهامهم داخل النظام الجديد، ساهم إلى حدٍ كبير في إقصاء أبناء مناطق اليمن الأسفل، وحرمانهم لسنوات من الالتحاق في الكليات العسكرية، واحتكار المناصب القيادية، وتشكيل جيش مناطقي ولاءه للقبيلة، وما حدث العام الفائت «21 سبتمبر» ، من انتكاسة صادمة، ما هو إلا نتيجة متوقعة لتلك التراكمات، والآن وبعد مضي عام من عودة حكم الإمامة الزيدية بمسماها الجديد «الجمهورية المتوكلية»؛ بقي التذكير: أنه لولا الجيش «الوطني» ما صمدت صنعاء «1968م»، ولولا الجيش «اللاوطني» ما سقطت صنعاء «2014م». الإمام الواحد بعد المئة.. موضوعنا القادم، انتظرونا..

الحجر الصحفي في زمن الحوثي