الصيام وقوة الإرادة

د. عبدالقوي القدسي
الثلاثاء ، ٢٨ ابريل ٢٠٢٠ الساعة ٠٦:٤٥ مساءً

 

فرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان من كل عام، وفرضية الصيام هو امتداد لفرضيته في الديانات السابقة، قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[ البقرة: 184] .

يصوم بعض النصارى (40 يوماً أو 55 يوماً) غير متقطعة، ويسمى بالصوم الكبير ، وفي هذا الصيام يمتنع الصائم عن تناول الأطعمة ذات المنشأ الحيواني ، كاللحوم و البيض و الألبان و الأجبان ، ليعمد إلى أكل الخضروات و الفاكهة، أو ما يعرف بالأكلات المطهوة بالزيت في مواقيت محدّدة يعرف بالقطاعة، وقد ورد بأن عيسى -عليه السلام- كان يصوم أربعين يوماً متتابعة في العام .[1] وأما اليهود فيصومون ستة أيام متقطعة خلال العام، ويمتد الصيام لديهم إلى 24 ساعة من الشروق إلى الشروق، ويمتنعون في الصيام عن الطعام والشراب كالمسلمين.

تتضمن آية فرضية الصيام بيان الحكمة من التشريع، وهي تحقيق التقوى يقول الله تعالى:”” لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” . يقول الطبري – رحمه الله –: تتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا – يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم[2]. ويقول السعدي – رحمه الله – فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه[3].

الصيام هو الواجب في شهر رمضان، وأما القيام والتبرعات، والإكثار من تلاوة القرآن وأعمال الخير الأخرى فهي أمور لا ترتبط ارتباطاً مباشراً برمضان، والسؤال: من المستفيد من الصيام ؟ الله تعالى لا ينالُه من صيام الناس شيء، وإنما يناله التقوى، كما قال تعالى في شأن الأضحية: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ [الحج : 37]، لو كان الناس جميعاً على أتقى قلب رجلٍ واحد لما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد لما نقصَ ذلك من ملكه شيْا، كما ورد في الحديث القُدسي الذي أخرجه مسلم، وجاء فيه أيضاً : ” يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي” فهذا يعني بأن الصيام له عدة وظائف، وكلها تعود على الإنسان وعلى المجتمع بالنفع في نهاية المطاف.

الصيام تشريعٌ رباني على المسلمين في كل فترات التاريخ، ولا شك فإن الحكمة الأهم في هذا التشريع – من وجهة نظري – هو اختبار لقوة الإرادة. فما المقصود بقوة الإرادة؟

جاء في معجم المعاني بأن قُوَّة الإرادة:هي المثابرة على القيام بعملٍ ما برغمِ العوائق والمصاعب التي تعترض القائم بهذا العمل[4]. ألا يُعدُّ صيام ثلاثين يوماً كفيلاً بتحقيق قوة الإرادة واختبارها، فالمسلم يمتنع عن كل ما هو حلال لمدة تصل إلى (12) ساعة، وليس عليه رقيب إلا لله تعالى، ويؤدي عمله صائماً، ويقضي جميع أعماله وهو صائم، وربما كان في بلادٍ تطول فيها ساعات الصيام أو كان في مجتمع غير مسلم لكنه يصوم، ويمارس حياته كلها بشكل طبيعي. ألا يُعد كل هذا شاهداً على قوة الإرادة ؟!

الصيام يفرض على الصائم التزام الأخلاق الحسنة، وعدم الرد على المسيء ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: ” فإنِ امرُؤٌ شتَمَه- فليَقُلْ: إنِّي صائمٌ “[5]، وعلى الصائم أن يدرك بأن الصيام ليس امتناعاً عن الطعام والشراب فحسب، بل امتناعاً عن كل إثم وشر، وفي الحديث: ” مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ” [ البخاري] . والزور : الكذب والميل عن الحق . أفلا يكون التزام الصائم بعدم رد الإساءة بمثلها في أشد حالات الاستفزاز دليلاً على قوة الإرادة ؟!

الصائم يشعر بجوع الفقراء والمساكين، فتسمو روحه، وينفق في رمضان أكثر من أي وقت آخر، وإذا لم يستطع المسلم الصيام لعجزٍ دائم، فعليه أن يُطعم عن كل يوم مسكين، قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [ البقرة: 184]، ألا يُؤدي الصيام وظيفة اجتماعية، ويربي المجتمع على قوة الإرادة والتغلب على الشح والأنانية المفرطة لدى البعض ؟

إحدى طالباتي تحكي لزملائها قصة يوم كانت في نيوزلندا وأدركها رمضان فصامَت، وكان عمرها إذْ ذاك لا يتجاوز (13) سنة، تقول: لامتناعي عن الطعام والشراب فقد استدعتني الإدارة وطلَبت مني توضيح الأمر، فشرحت لهم بأنني صائمة، وصيام رمضان ركن من أركان الإسلام، لم يستوعبوا الموضوع فسألوني عما إذا كانت أسرتي تجبرني على الصيام أم لا ، فوضحتُ لهم بأن ما أفعله ناتج عن قناعتي الكاملة. تقول الفتاة: بعدها بدأ زملائي والمعلمون والمدرسة يتعاملون معي بكل لطف إلى درجة أن بعضهم بدأ يُعِد بعض وجبات الإفطار ونشترك معاً في تناول الطعام، ولعل بعضهم صام معي بعض الأيام .ألا يُعد ما فعلته الفتاة الصغيرة معبرا ً عن قوة الإرادة ؟!!

كما نجحت تلك الفتاة في اختبار الإرادة ، فإن هناك من يفشل! عرفتُ أشخاصاً كانوا يسهرون الليل كله في لعب (البطَّة) و(الدمنة) وغيرها، ومتابعة المسلسلات، ويتناولون سحورهم، ثم ينامون حتى العصر، فإذا استيقظوا فإنهم لا يصبرون حتى أذان المغرب. لقد كانوا يتناولون بعض الطعام والشراب ويفطرون قبل المغرب، ثم يلتحقون بعد المغرب بموائد الصائمين !!

وخلاصة القول : صيام شهر رمضان اختبار لقوة الإرادة، وهناك معايير لقياس النجاح أو الفشل، وأهمها : امتناع الصائم عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر حتى المغرب، والالتزام بحسن الأخلاق، وعدم الاستجابة للاستفزاز، وممارسة الأعمال بكل جد ونشاط.

 

 

[1] https://mawdoo3.com/%D9%85%D8%A7_%D9%87%D9%88_%D8%A7%D9%84%…

[2] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura2-aya183.html…

[3] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/saadi/sura2-aya183.html…

[4] https://www.almaany.com/…/%D9%82%D9%88%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D…

[5] https://dorar.net/h/a696877b373e7ddebcd2e407410dab81  

الحجر الصحفي في زمن الحوثي