تعز.. هل تتخلى عن الاستثناء؟

كتب
الاربعاء ، ١٨ يوليو ٢٠١٢ الساعة ١١:١٥ مساءً
  بقلم: جمال حسن لم يسبق أن شعرت بالامتعاض، وأنا في تعز، كهذه المرة. تمثل المدينة بالنسبة لي، ذكريات الصبا، مخزناً من الاحلام الصغيرة التي استودعتها طفولتي، حتى تلك المرحلة التي تبدو الأكثر سذاجة ورعونة: المراهقة، باعتبارها مرحلة تتصف بالتسرع، بما أنها تحاول التنصل الجذري عن كل ما كان طفولياً فينا، كما تحاول ادعاء وتصنع كل ما هو رجولي. تعز اليوم، تحاول أن تبدو كذلك؛ طفلاً يتمرغ بمراهقة التسلح. ما كان يشكل لها امتيازاً كطابع هو الأكثر تمدناً في اليمن، باعتبارها مصدراً كبيراً للتطلع نحو الانتماء لعصرنا، كونها لطخة غريبة لكنها جميلة، هذا الامتياز تحاول أن تتخلى عنه اليوم، لأن عدوى ما هو وحشي في وعينا وزائف أصابها كطاعون مدمر. مظاهر تسلح أفسدت المدينة، جعلتها تحاول استنساخ شكل الأحراش القبلية. مع ذلك، ليس بمقدورها أن تكون ما لا يشبهها، ستكون أيضاً مسخاً مشوهاً، لما هو متخلف وفاسد. ها نحن نسمع أخباراً عجيبة، مؤخراً يُقتل مدير السجن المركزي في تعز، هاجمه مجهولون، اعتداءات تطال المصالح، اعتداءات على اللجنة الأمنية، التي تحاول إخلاء المدينة من السلاح. لنقل إن المسلحين دافعوا عن المواطنين، حين تم الاعتداء على العزل، وحين أُحرقت الساحة. لكنهم اليوم ينتهكونها بصورة لا تقل بشاعة. يفسدون أصالتها، وشكلها. أعرف سيقول البعض، أكنت تريدهم أن ينتهكوا حرمتها، شيئاً من الاسطوانات كثيرة الصراخ. هناك الكثير مما يبدو عديم الذوق، ليس بالمعنى الأخلاقي، بل الجمالي، في طرح آرائنا. حقاً إن شيئاً من مطالب الثورة تحقق، بمعنى خروج صالح، وبما أن تعز كانت الساحة الأولى، إلا أن علي صالح، دعوني أقول لكم بنوع من المرارة، انتصر أيضاً بعسكرة المدينة. لكن هل نجح أيضاً بإفراغ الثورة من شعارها اللافت؛ دولة مدنية. لنقل إنه لم يكن وحده في شن الحرب على هذا الشعار، هناك حليف آخر انشق عنه، تواجد داخل الانتفاضة، وتقاطعت مصالحهما كما كل مرة، في هذا التوجه، أرادا معركتهما الخاصة لا تشذ عن نص ماضيهما الموحد. حتى وهما يتصارعا أرادا تمريغنا بما سيمثل لأي طرف منهما قوة، تفاهماً دون وعي منهما، بالماضي المشترك لسلطتهما. ما عجز عنه صالح كلياً، يحاول أن يكون واقعاً. ساعد أيضاً هذا الشق من التحالف إنتاج وجاهات تقليدية بعضها لم تكن موجودة قبل الثورة. طموح المشيخة غذاه الواقع، لكنه تحقق بالنسبة للبعض، مع المرحلة. ثمة شباب تحولوا بعد الثورة مشائخ، يمتلكون سلاحهم الخاص، مرافقيهم. لم يكن لديهم شيء، لكنهم يمتلكون الآن سيارتين وثلاثاً تسير مترافقة، محمولة بمسلحيهم، على طريقة المشائخ الاعتيادية، وينفقون عليهم. كيف تم ذلك بغمضة عين، من وراء ذلك؟ هذا النوع كان فعالاً في مواجهة قوات موالية لصالح. هوس مشيخة، تحقق أيضاً بتشريع ثوري. من هو الذي انتصر إذن، هل الثورة، أو وعي فرض نفسه على الواقع؟ أتذكر تصريحاً لقناة عربية، لحميد الأحمر، وهو يتحدث عن قبائل تعز، التي هبت لإنقاذ مدينتهم. كم كانت تلك المفردة قاسية ومحبطة، قبائل. لا توجد أي مشكلة، بالنسبة لي، معها كمفردة، لكن مع ما تنتجه من وعي. هل كانت هناك حلول أخرى، ربما قليلة هي الحلول. لكن أيضاً كنا نعاني من انعدام في المخيلة، لأن الأصوات العالية، كان تخفي إعاقتها الفكرية بالصراخ. هناك ثورات سلمية، هناك أيضاً ثورات مسلحة، كان من المفترض الحديث عن وجود ثوار، حتى لو كنا لا نريدها أن تأخذ اتجاهاً عسكرياً، سيكون الحديث عن ثوار. لكن الأحمر من مصلحته إنتاج هذا الوعي، لأنه لا يستطيع الوجود بدون صيغة كتلك. في تصوري، حدث أيضاً تهتك للمدينة. لا يمكن افتراض أن أوروبا كانت تخلو من القبائل. لعلنا سمعنا عن القبائل الجرمانية، وفي افريقيا، ثمة مجازر أخذت طابعاً قبلياً، في الصومال أوصلت القبيلة البلد إلى حرب أهلية. ليس لأني معترض عن هذا الشيء، لكن الناس يتخلون عن عاداتهم السيئة إذا أرادوا ملاحقة العصر. كيف نتحدث عن دولة مدنية، ولسنا مستعدين للتخلي عن أكثر عائق لها. هل هذه المدينة التي نمت فيها بعض من أحلامنا، وكانت مفخرتنا المدنية، حتى لو كانت منقوصة، ومحاصرة بهالة المشيخة. واحدة من إشكاليات الديمقراطية القليلة، إنها تجلب مفاهيم الرعاع، لذا علينا أن نتعايش مع هذا النوع من الوعي. القيم الجمعية المتأصلة، تشبه شكل الغابة. من لديه قوة، ولُحمة قبلية، أو لنسميها قتالية، يمكنه النجاح. يركب السيارات الفارهة، ويحصل على مخصصات كبيرة. ثيمة النجاح تشكل الوعي الجمعي. لذا أعتقد الناس أن مفخرتهم القتال، لكن تعز في الحقيقة كانت تفتخر بميولها المدنية، بالتعليم. كنا في مقيل، وأتذكر ما قاله رجل يمتلك رؤية عميقة، مطيع دماج: كنا نتمنى أن نجعل أرحب مثل تعز، لكن للأسف جعلنا تعز مثل أرحب. ثمة مقولة تلقفتها من المصور جميل سبيع، التقى بمسلح ينتمي لإحدى قبائل شبوة قال له: نحن نحسد أبناء تعز. لم يقل أكثر من ذلك، لكننا نفهم، أنه يعي ما يقوله، بأنهم تخلوا عن هذا المرض، السلاح وثقافة الموت. كانت تعز استثناء، لأنها أرادت أن تكون مدينة بكل عثراتها، لكنها اليوم تريد أن تكون قبيلة.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي