العقل الجمعي

د. عبدالقوي القدسي
الاربعاء ، ٠٤ مارس ٢٠٢٠ الساعة ٠٩:٢٣ مساءً

توجه صديقنا لأداء العمرة، وفي المسجد النبوي يرى أناساً يندفعون للتبرك ببعض سواري المسجد، فيندفع معهم، ثم يسأل نفسه : لماذا يفعلون ذلك ؟ يكتشف أنهم يتبركون بتلك السواري ، وقد فعل مثل ما يفعلون بدون شعور، ولطالما كان صديقنا يحذر من مثل تلك التصرفات . لقد اندفع لتقليدهم بفعل العقل الجمعي.

قد تمر يوماً بمجموعة فيلتفتون فجأة إلى السماء، وإذا بك تفعل مثلهم دون شعور، وقد يُصفق مجموعة من الناس فجأة، فتصفق معهم دون أن تعلم لماذا يصفقون !! بل قد تضحك لضحكاتهم ثم تعود لتضحك على نفسك؛ لأنك لا تعي ما تفعل!!  إنه العقل الجمعي، وفيه يسير الشخص مع مجموعته أو جماعته أو حزبه أو فئته ، يعتقد ما يعتقدون، ويردد ما يقولون، ويقلد ما يفعلون دون تفكير، أو بالأحرى على اعتقاد أن كل ذلك حق غير قابل للمناقشة.

ألم يعترض أهل مكة على النبي محمد(ﷺ) وقالوا : (إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ)  [الزخرف – 22] ؟!  ألم ينادِ فرعون في قومه متهماً موسى، فقال: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26] ؟! ثم ، ألم يتخذ بنو إسرائيل من العجل المصنوع بأيديهم إلهاً، وقالوا : (هذا إلهكم وإله موسى) [طه:88] ؟!!

يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم ( 1858ـ-1917 ) مؤسس نظرية العقل الجمعي على أن الحياة العقلية تتكون من تيارات من التصورات المستقرة في أذهان الناس بعضها فردي وبعضها جمعي. والعقل الجمعي سيكولوجيًا هو أسوء نماذج العقول حيث ينساق المرء فيه وراء غرائزه البدائية من خلال الإحساس بالأمن الشكلي ضمن المجموع، فيلجأ إلى الحلول ذات الصبغة الإرضائية الساذجة للمجموع دون إدراكٍ لمخاطرها المستقبلية في بناء الاستقرار الفعلي على مستوى الفرد والمجتمع. العقل الجمعي، أو سياسة القطيع ، يقول: أنا أتصرف على نحوٍ سليم حين يكونُ سلوكي مشابهاً لسلوك الآخرين. 

هل حدث أن أحجمت عن قول رأيك في أحد الاجتماعات؟ أكيد؛ فالواحد لا يقول شيئاً، ويومئ برأسه موافقاً على قول أصحاب الاقتراح حتى لا يكون هو – دائماً-  هادم اللذات، علاوة على ذلك غالباً ما يكون الإنسان غير واثقٍ بعدُ في رأيه المختلِف، كما أن الآخرين ليسو أغبياء ليُجمعوا هذا الإجماع على غير هدىَ؛ ولهذا يلزم الصمت. حين يسلك الجميع نفس المسلك تبرز ظاهرة التفكير الجماعي: مجموعة من الأذكياء يتخذون قرارات حمقاء لأن كل واحد يحجم عن إبداء رأيه مقابل أن يلتزم الإجماع. وهكذا تصدر قرارات كان يمكن أن يرفضها كل واحدٍ من المجموعة على حدة. حينما تجد نفسك في مجموعة متواطئة متوافقة بالإجماع على أمرٍ ما، لابد أن تعبر عن رأيك، حتى لو لم يُستمع إليه بترحيب. ابحث وراء الافتراضات المسكوت عنها. وفي حال الضرورة غامر بالخروج من العُش الدافئ للمجموعة. أما في حالة أن تكون قائداً لمجموعة فعيِّن شخصاً يؤدي دور "محامي الشيطان"، لن يكون شخصاً محبوباً في الفريق، لكنه سيكون العضو الأهم (دوبلن: التفكير الواضح ). لا يمكن للحماقة أن تتحول إلى حقيقة بسبب كثرة المؤمنين بها، وقد صرح القرآن الكريم بذلك فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) [الأنعام: 116]. العقل الجمعي يوهِم أصحابه بأنهم على الحق، وكما يقال في المثل اليمني : "بين إخوتك مُخطئ ولا وحدك مُصيب"، وهنا مربط الفرس، كما يقال!! 

بسبب العقل الجمعي يقع الكثيرون في الخطيئة دون اكتراث، والأكثر خطورة عندما يُصبغ العقل الجمعي بالصبغة الدينية، فالعادات الاجتماعية – على سبيل المثال - التي تحرم المرأة من بعض حقوقها تصبح مسألة طبيعية في العقل الجمعي المسلم على اعتقاد أن ذلك من الدين، والخنوع للحاكم الظالم وإن جلد ظهرك ولطم خدك مقبول ضمن العقل الجمعي لبعض المتدينين، والقرارات المتخذة في غالبية الجماعات الدينية تكون في إطار العقل الجمعي المستند إلى نصوص الدين، وإلى جانب القرآن والسنة يأتي (الإجماع) ليكون أحد مصادر التشريع لدى البعض، ويا ويل من خالف الإجماع بحسب العقل الجمعي ؟!!!

لو تم اتخاذ قرار وفقاً للعقل الجمعي، وترتَّبَ على ذلك القرار خسارات فادحة لدولة أو مؤسسة، فمن يتحمل النتيجة؟!! وعندما يُناقَش موضوع ضمن مجموعة متجانسة، ولا يوجد بينهم معارِض، فما نسبة صوابية قراراتهم ؟! لا شك أن الوضع مريح بدون معارض، ولكن صوابيته أريح، ولذلك تعجبني عبارة النابلسي: " الحقيقة المُرة خير ألف مرة من الوهم المريح ".  الشعوب الحيَّة تحتفي بالآراء المعارضة، وتجعل منها منطلقاً للإبداع، والابتكار، وتصويب المسار، والبلدان الميتة تنظر إلى كل صوتٍ معارض تهديداً يجب أن يُخرس صاحبه!

العقل الجمعي عادة ما يصاب بالخمول والركود، ويتعايش مع الوضع المعهود، بينما العقل الفردي يحب الانطلاق والابتكار ويُحلق في عالم الأفكار، ولذلك فمن الضروري أن يُطلق العنان للعقل الفردي، وتُرفع عنه القيود، ويُسمح له بطرح آرائه، ويجب الإنصات لها، فالمؤسسات الناجحة هي التي يتسع صدرها للآراء المخالفة، وهل كانت المخترعات إلا نتيجة التفكير خارج الصندوق كما يقال؟!!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي