الخطاب الديني والنهضة المنشودة

د. عبدالقوي القدسي
الاثنين ، ٠٢ مارس ٢٠٢٠ الساعة ٠١:٥٠ مساءً

 هناك العديد من العوامل التي أسهمت- ولا تزال - في تعايُش الأمة مع الهزيمة، واحتفاظها بمكانها في ذيل القافلة، ولا شك أن للخطاب الديني دور لا يمكن إغفاله في نهضة أو انحطاط الأمم.

في الوقت الذي كانت الأمة بأمَسّ الحاجة إلى خطاب ديني يدفع بأبنائها نحو العلم بمختلف مجالاته، ركّز الخطاب الديني على علوم الشريعة- فقط- تحت مسمى "العلوم الشرعية"، وكأنّ ما عداها من علوم الدنيا تُعد علوماً غير شرعية!! وأنا هنا أدعو إلى تسميتها بـ "علوم الدين" أو "علوم الشريعة" بدلاً من مسمى "العلوم الشرعية" إزالةً للّبس، وتسميةً للأمور بمسمياتها.

يكاد الخطاب الديني بمختلف توجهاته يُجمع على أن أساس تخلف المسلمين اليوم هو البُعد عن الدين، ومن هذه المقدمة ينطلق كل فريق لدعوة الناس إلى العودة إلى الدين بطريقته، فهل أساس تخلفنا اليوم – فعلاً – هو ابتعادنا عن الدين ؟! وهل هناك علاقة بين التفوق الحضاري وبين الدين ؟

لنسأل أنفسنا : لو كان الشعب كله قوي الإيمان، ولا يأخذ بسنن العلم والتفوق المادي فهل سيتفوق علمياً ؟ وفي المقابل، لو كان هناك دولة شعبها كله ملحد، وأخذ بسنن التقدم العلمي، فهل سيتقدم ؟!

يقول الغزالي- رحمه الله – في كتابه مشكلات في الحياة الإسلامية "الفكر الديني سَمُن ونَما له كرش، وما تعود له صحته إلا إذا ذهبت هذه السمنة، واختفى هذا الكرش، واشتغل المسلمون بعلوم الحياة التي يُنصفون بها دينهم" . المشكلة ليست في الدين

هناك أنواع من الخطاب الديني، نشير إلى بعضها، كالتالي :

الخطاب الديني المرتبط بالمؤسسة الحاكمة، وقد ركّز هذا الخطاب على طاعة أولي الأمر، ووجوب اتباعهم، وبأن السلطان هو ظل الله في الأرض، واستخدمت مؤسسات الدولة الإعلامية والدينية لترسيخ ذلك ، وإخضاع الناس للسلطان باسم الدين . الخطاب الديني المرتبط بالجماعات الإسلامية، وقد ركَّز هذا الخطاب على الانتصار للآراء المنبثقة عن الجماعة، وخاض معركة مع الجماعات الأخرى في إثبات صوابية ما يذهب إليه، وتسفيه آراء خصومه. الخطاب المرتبط بالمذاهب الفقهية، وقد ركَّز هذا الخطاب على الخوض في تفاصيل المسائل الفقهية الخلافية، وألّف الكتب، ونشر الأبحاث في سبيل الانتصار لآراء رموز المذهب . الخطاب الديني المرتبط بالشيعة، ركَّز هذا الخطاب على الإمامة، وأحقية علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بالخلافة، وظلّ رافعاً لشعار المظلومية، وينادي بالانتقام لدم الحسين من الأبرياء اليوم الذين بينهم وبين الحسين قرون، ولم يكن لهم في الموضوع ناقة، ولا جمل . الخطاب الديني المستحضر لمقاصد الشريعة الإسلامية، والمتجرد لله تعالى، لا يبتغي أصحابه ثناءً من سلطان، ولا رتبة تنظيمية في حزب أو جماعة، وهذا الخطاب هو الخطاب المتعايش مع السنن الربانية والخبرات البشرية،يركز على القيم الدينية، ويثير العقل للبناء والتنمية، ويهتم بالروح والجسد معاً.

انتشرت مدارس وجامعات القرآن والحديث وعلوم الشريعة، وهذا شيء حسن، والسؤال: ماذا أنتجت تلك المدارس والجامعات ؟! وما أثَر ذلك في حياة الناس ونهضة الأمة؟ وهل هناك ضرورة لتعديل مناهجها، أم لا توجد ؟

ينتشر أيامنا هذه وباء (فيروس كورونا) ، وإذا بالكثير من الرموز الدينية يهلل ويكبر، ويتحدث إلى الناس بأن هذا الوباء ما هو إلا عذاب أرسله الله على الصين بسبب إيذائهم لمسلمي الأوجور! ربما يكون لهذا القول وجاهة، إن كان الوباء يستهدف قادة الحرب هناك، فيهلكهم كما أهلك الله النمرود بالبعوض، وكما أهلك الله أبرهة وجيشه بالطير الأبابيل، ولكن الوباء لا يستهدف هؤلاء القادة، وإنما ينتشر بين الجميع، ولا يفرق بين الناس بسبب دينهم أو انتمائاتهم ، إنه يهاجم الجميع، ويتجاوز الحدود، ويحط رحاله في المكان الذي يصل إليه، ثم ينتقل إلى غيره. فهو وباء كغيره من الأوبئة، والأمراض المندرجة تحت (أقدار الشر) والتي يجب مواجهتها بالعلاج، والدواء المندرجة تحت (أقدار الخير)  بحسب المفهوم الإسلامي، وبذلك ندفع أقدار الشر بأقدار الخير، وفق سنن الله الحاكمة للكون.

يرتكب البعض جناية كبرى في حق الدين عندما يحصرونه بين جدران تعصُّبهم، ويُفصِّلونه على مقاس أفكارهم، ويتخذون منه سيفاً لضرب خصومهم،ودرعاً يتقون بها ضربات غيرهم، وسوطاً لجلد مخالفيهم.

تنص مسودة الدستور اليمني في المادة (2) على أن الإسلام هو دين الدولة، وتنص في المادة (4) على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع ، كما تنص المادة رقم (9) يحظر استغلال دور العبادة لنشر الأفكار الحزبية أو الدعوة لتحقيق مصالح سياسية، أو التحريض على العصبية أو الكراهية، أو إثارة الفتن وأعمال العنف.وفي المادة (13) فقرة رقم (5) يُحضر على الأحزاب استغلال الدين لأغراض سياسية ([1]) .

تلك النصوص الدستورية المتوافق عليها من أغلبية القوى الفاعلة في اليمن، والتي هي ترجمة لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل التي أقرت مطلع العام 2014م ،كفيلة بأن تضمن تعايشاً بين أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن رؤاهم، ومذاهبهم الفقهية، ولن يستطيع أحد أن يُزايد على الناس باسم الإسلام، أو يدعو إلى فكرٍ يناهض قطعيات الإسلام في ظل تلك التشريعات.

لو حلَّلنا الخطاب الديني الذي أعقب سيطرة الحوثي على صنعاء، والذي مهَّد لذلك تحت لافتة المسيرة القرآنية، أو  مُسمى "أنصار الله" – وكأنهم الممثلون الحصريون لله - فماذا سنجد؟ ولوتتبعنا الخطاب الديني الذي رافق إسقاط الانتقالي للعاصمة المؤقتة عدن وأخواتها، فإلامَ سنصل؟ ولو دخلنا إلى وسط المعارك المشتعلة، وألقينا السمع لشعارات المحاربين والخطاب الديني المرافق لجميع الأطراف، فما النتيجة التي سنصل إليها؟!

هل أتاك حديث الخطاب الديني في مصر ودول الخليج، وفي تونس والسودان، وفي سائر البلدان؟ ألا نلاحظ العداء المستفحل بين أتباع التيارات الدينية المختلفة؟ ألم يسقط بعض المشهورين من الدعاة في تناقضات عجيبة، جعلت منهم مثارَ سُخريةٍ وتَندُّرٍ لدى المعجبين بهم قبل المُبغِضين؟!ألم يصبح التوفيق بين بعض المتصدرين للخطاب الديني شبه مستحيل، والجهود المبذولة في سبيل ذلك من قبيل الحرث في البحر ؟!

عندما نتحدث عن الخطاب الديني، فإننا نعني به خطاب بعض المتدينين، وليس خطاب الدين، فديننا الإسلامي هو دين القيم الفاضلة، والتشريعات العادلة، وهو منهج  متكتامل في التسامح والتعايش، وفيه يجد الإنسان حاجته الروحية، وبأحكامه تستقيم حياته، وسلوكياته اليومية، ويكفينا خطاب الله لرسوله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)[الأنبياء:107].

لن نستطيع تجاوز ضعفنا وتخلفنا الحضاري وإحداث النهضة المنشودة ما لم نتخذ خطوات جادة لإعادة صياغة الخطاب الديني بما يتناسب مع المرحلة، خطاب يجمع ولا يُفرِّق، يَبْني ولا يهدم، يأخذ بيد الناس إلى البناء - تماماً – كما يأخذ بأيديهم إلى الله، ومن الأهمية بمكان أن يدرك المتصدرون للخطاب الديني أنهم لا يخاطبون كفار قريش أو شعوباً جاهلية، إنما يتحدثون مع أمة مسلمة، ومتمسكة، ومعتزة بقيم دينها؛ ولذلك فلا بد من إعادة ضبط بوصلة الخطاب؛ حتى يسهم في إحداث النهضة، وتحقيق السلم والتعايش والعيش الكريم للشعب، مالم فإننا سنعيش مراحل صراع لا تنتهي، ولا تكاد تنطفئ نارٌ للفتنة في مكان إلا أشعَلَ التطرُّف ناراً للحرب في مكان آخر.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي