مراحل النهضة المنشودة

د. عبدالقوي القدسي
الخميس ، ٠٦ فبراير ٢٠٢٠ الساعة ١١:٢١ مساءً

 

حَرقُ المراحل، وتعجُّل النتائج ليس من صفات رواد النهضة، وقد قيل :" من تَعَجَّل شيئاً قبل أوانه عُوقبَ بحرمانه " .

من طبيعة البشر أنهم يتعجلون النتائج وعادة ما يبادرون بالسؤال:"متى هو"، والإجابة المنطقية التي تناسب السؤال: عسى أن يكون قريباً. ولأن الإنسان خُلق عجولاً فهو أيضاً لا يحتمل الانتظار كما أنه لا يصبر على بلاء ولا يثبت على موقف أو اختبار، وسرعان ما يتسرب إلى نفسه الضجر ، ولقد قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " [الأعراف:١٢٩].

إحداث التغيير وصناعة النهضة مرتبطة بالإنسان، وتهيئة الإنسان ليكون أهلاً للتغيير أمر في غاية الصعوبة ، ولذا فإننا نؤمن بأن للنهضة المنشودة أربع مراحل.

المرحلة الأولى ، هي مرحلة الإيمان بأن الأمة في سُبات عميق، وبأنها تعاني من الإعاقة والشلل، والكثير من العاهات التي حالت بينها وبين التأثير الحضاري، ومن هذه المقدمة ينبثق مشروع النهضة، ولا بد لأي مشروع من طليعة!

أنا على قناعة تامة بأن عهد الفرد ولّى، وحلت محله المؤسسة، فتأثير الأفراد بآحادهم مهما كانت قدراتهم محدودة، ولكن باجتماعهم يصبغون على المشروع قوة، وكل فرد في فريق النهضة  يجب أن يعيش للفكرة ، ويحلم بها ، ويراها ماثلةً أمام ناظريه،  في منامه ويقظته ، وحِلّه وترحاله ، وفي سكونه وحركته. نعم ، يجب أن يكون مشروع النهضة كالظل ملازماً لصاحبه، ومن تكن النهضة له قريناً فقد حسُن قريناً!! .

المرحلة الثانية ، وهي مرحلة صياغة مشروع النهضة ، ومشروع النهضة يبدأ بالعموميات والقضايا الرئيسة، ثم ينتقل تلقائياً إلى التفاصيل ، فمعالم المشروع يجب أن تكون ظاهرة للعيان، ونظرية النهضة المنشودة يجب أن تكون مصاغة بإتقان ؟! وحتى تكون الفكرة مكتملة والمشروع جاداً فلا بد من تحليل دقيق للبيئة بتحديد جوانب القوة والضعف، والتهديدات والفرص  المتاحة .

ذات يوم وفي جلسة تشبه جلسات العصف الذهني ، ولا تخلو من العاطفة الجياشة والآمال العريضة تجاذبت أطراف الحديث عن النهضة المنشودة مع مجموعة يشاطرونني الهَمّ، ولا يقلون حماسة عني، لقد كانوا من تخصصات مختلفة، وكان النقاش جاداً.

من أين نبدأ النهضة ؟! كان هذا هو سؤال جلستنا. وبطبيعة الحال فقد حصلنا على إجابات بعدد الحاضرين تقريباً!

 يرى التربوي أن مشكلة الأمة تكمن في فشل التعليم ويتحدث بمرارة عن الغش، والتزوير ، والقائمين على التعليم .  يتحدث الاقتصادي عن النهضة من زاويته، إذ لا يمكن حدوث نهضة بدون اقتصاد ويسوق ما يؤيد  ما يذهب إليه ، وأما السياسي فإنه يبادر الجميع بالقول : إذا كان النظام غبياً مستبداً فلن تقوم في ظله نهضة ولا حضارة ، فالبداية تكون بإصلاح أو تغيير النظام . أثناء حديثنا تظهر أصوات تنادي بضرورة الإصلاح الديني كمدخل للنهضة ، وأخرى تنادي بحل جميع الأحزاب والتيارات القائمة ، وترتفع أصوات لتتهم القبيلة بانها سر التخلف والبلاء ، ولا يمكن إحداث نهضة في ظل سلطة المشايخ أو الوجهاء . الغريب أننا ونحن منهمكون في نقاشنا إذ برجل بلغ من الكبر عتياً وقد ترامى إلى سمعه بعض ما قلناه ، يقترب فيقول : أنتم واهمون !! في ظل سلطة الجهل والإمامة لا تحلموا بنهضة ولا حضارة !!

إن النظرية التي يجب أن تقوم عليها النهضة اليوم يجب أن تشمل كل ملفات التعليم، والاقتصاد، ونظام الحكم والخطاب الديني، وبناءّ عليه، فلا بد أن يعكف روّاد النهضة على إثراء كل الملفات سالفة الذكر، ومن ثَمّ تحديد أوليات النهضة المنشودة.  

المرحلة الثالثة للنهضة، هي مرحلة التعريف بمشروع ونظرية النهضة، والهدف في هذه المرحلة هو تسويق الفكرة وإقناع فئات الشعب بها ، عبر الوسائل المختلفة، فالفكرة بدون سند شعبي أو رسمي لن يُكتب لها النجاح، وقد تموت موتاً سريرياً ريثما ينبري من يؤمن بها فيبعثها من جديد، وفي هذه المرحلة يجب أن يتوقع القائمون على المشروع العديد من الصعوبات، وكَمّاً هائلاً من التثبيط. ولطالما وقف  المظلومون مع الظالمين في وجه من ينادي بإزالة الظلم عنهم !!

بعد القبض على  ” جيفارا ” – أحد أبرز الشخصيات في الثورة الكوبية - في مخبئه الأخير بوشاية من راعي أغنام سأل أحدهم الراعي الفقيـر : لماذا وَشَيْت عن رجل قضى حياته في النضال ضدّ المستعمر الخارجي وعملائه ؟ فأجاب الراعي : ( لقد كانت حروبــه وجنوده تــروّع أغنامـــي !! ).

إن دعوات النهضة ومشاريع البناء تُواجه بكل عنف، وتُجَابَه بكل وسيلة، ولمْ يَسْلم الأنبياء والمرسلون  من أذى الطاغوت ناهيك عن العلماء والمصلحين !! وفي التاريخ لمن يقرؤه عظة وعبرة، وما أحسن قول الشاعر:  تهونُ علينا في المعالي نفوسُنا ...ومن يطلب الحسناء لم يُغله المهر .(أبو فراس الحمداني).

أعرف بعض العاملين في  شركات التسويق الشبكي، يعملون ليلاً ونهاراً في كسب الزبائن، وإقناعهم بفكرة التسويق الشبكي،  وبجزالة المردود المادي، وأثره الإيجابي ، ويقضون الساعات الطوال في الرد على الاستفسارات وتسجيل المحاضرات لغرض التسويق للمنتجات وكسب العمولات !! لا أتحدّث هنا عن حِلٍّ أو حرمةِ هذا العمل، ولا أناقش قضية الوهم أو الحقيقة في الموضوع ، وإنما أضرب بذلك مثلاً لكيفية التسويق للفكرة التي ترسخت في الوجدان ، وتعمق الإيمان بها حتى لتكاد تجري من صاحبها مجرى الدم ، وهكذا يجب أن يكون أصحاب فكرة مشروع النهضة !! 

إن نجاح مشروع النهضة لا يعني كسباً مادياً محدوداً، ولا حلاً لمشكلة اقتصادية فحسب، ولا زيادة في أجور العاملين، ولا تغييراً في وجوه الحكام والمسؤولين. إن نجاح مشروع النهضة معناه ، إعادة الإنسانية المسلوبة، واستنهاض الإنسان  للقيام بدوره في بناء الحضارة ببُعديها المادي والروحي .

 إن نجاح المشروع يعني استعادة حياةَ أمة شارفت على الهلاك، وعلاج جراحِ مجتمعٍ، يرى البعض استحالة علاجها، وفي سبيل نجاح المشروع تهون التضحيات ، ودون هذه الغاية -كما يقال- تقطع أعناق الرجال!!

المرحلة الأخيرة هي أن يبلغ رواد النهضة غايتهم، ويحققوا النهضة المنشودة بامتلاكهم سلطة اتخاذ القرار في الدولة ، أو وصول المشروع إلى أصحاب السلطة وتَبنِّيهم له، وفي كلٍ خير . 

سيظل مشروع  النهضة حبيساً في الأدراج ، ولعله يوماً ما تذروه الرياح فيصبح أثراً بعد عين، إن لم تتهيأ له سلطة تسنده أودولة تنفِّذه!!

ما كان للمذاهب الإسلامية الأربعة أن تنتشر في الأمة، لولا استناد كلٍ منها إلى سلطة، وما كان لأي فكرة أن تجد طريقها للتنفيذ لولا إيمان سُلطةٍ ما بها وتبنيها، وما انتشرت الديمقراطية والعلمانية، والعولمة ، وحتى اللغة والثقافة إلا بدعم وتأييد من السلطة. فالفكرة مهما كانت قوية، ومؤثرة وعادلة لا مكان لها، ولا قيمة بدون حكومة أو سلطة !!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي