احداث 13 يناير 1986 وبعض من الذكريات

د. فائزة عبدالرقيب
الثلاثاء ، ١٤ يناير ٢٠٢٠ الساعة ١٢:٢١ صباحاً

اليوم تهل علينا الذكرى الرابعة والثلاثين للحرب الاهلية التي نشبت في 13 يناير  1986م والتي مازالت تداعياتها السلبية تحسب على المشهد السياسي الجنوبي وتؤثر فيه سلبا، سيما وان جراح البعض من طرفي الصراع ممن دفعوا ثمن تلك الحرب لم تندمل بعد وكذا المواطن الذي لم تكن له فيها ناقة او جمل..

  قبل الحرب وما اعقبها من احداث مازالت حية وتتداعى في ذاكرتي، تختزنها وتأبى ان تغادرها وربما ذاته ما يحدث مع الكثيرين الذين شهدوا تلك الحرب المؤلمة.

كنت حينها مثل غيري ممن لم يستوعبوا بعد كافة الاسباب التي ادت الى هذه المواجهة وهذا الصراع الدموي.. في ذلك الوقت كانت ذاكرتي ترصد صورا منفصلة عن بعضها البعض،  هناك من تتقارب وتتلاقى مع صور السرد التاريخي لحجم الحدث تجمعهم عوامل مشتركة، وأخرى ليس فيها من المنطق ما يستوجب غليان و انفجار بركان تلك الحرب بين الرفاق والأخوة المناضلين، ثوار حرب تحرير الجنوب من أعتى مستعمر اجنبي، الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم وحموا وفدوا بعضهم بأرواحهم الزكية.   قبل تلك الحرب، اجزم ان ذاكرتي لم تخني وثقافتي لم تلغ تفكيري المتوازن وقرأتي لكل ما يدور حولي كانت واضحة وتقييمي لاحتقان المشهد السياسي له من التبرير المتفائل ما يكفي وهو ان ذلك الاحتقان انما بسبب الاختلاف بالرؤى وهو ظاهرة صحية تدفع بعملية التطور نحو الامام خاصة عندما تكون هناك مواجهة ومكاشفة حقيقية وصادقة، بعيدة عن المواجهة المسلحة و جل هدفها تذويب الخلاف والارتقاء بالعمل السياسي والاستمرار في إنجاز المزيد من التحولات الاقتصادية والاجتماعية في حياتنا وبما يخدم الوطن و المواطن. 

قبل الحرب بفترة زمنية قصيرة، بدات العمل في اذاعة عدن وكان الفرح والتفاؤل يغمراني رغم  انزعاجي من ذلك الاحتقان السياسي الذي لم المسه بين اسوار الكلية كما هو بين الرفاق في الإذاعة بالإضافة الى تكثل البعض منهم و عملية الشد والجذب التي كنت أيضا ابررها  وارجع اسبابها الى التفاوت في مستوى الوعي والتفاوت في المستوى الفكري وهو ما كان يمنح الخلاف عذرا.

اعتقدت لوهلة ان ذلك الاحتقان سوف يتلاشى ويزول بانعقاد المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي اليمني في النصف الثاني من أكتوبر 1985م  وفعلا تنفست الصعداء بنجاح المؤتمر وخاب توقعي بانفراج الموقف فيما بعد، فلم تكاد تمر علينا الثلاثة أشهر وبينما كنت اداوم في عملي صباحا و بشكل اعتيادي، تحول مبنى الاذاعة فجأة إلى ثكنة عسكرية ثم في نشرة الثالثة عصرا سمعت المذيع محسن محمد بن طويرق رحمة الله عليه  ينقل لنا الخبر المشئوم بانفجار الموقف في مبنى اللجنة المركزية الذي ادى الى مقتل رجال عاهدوا الله في حرب تحرير ثم يموتون بعد ذلك بسبب حرب اهلية قال عنها الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد فيما بعد إنها لم تكن ناتجة عن صراع للوصول للسلطة بل بسبب تباين في الرؤى السياسية الداخلية، مؤكداً تحمل الجميع للمسؤولية التاريخية عن ذلك وهو ما توافق مع ما كتبه الشهيد جارالله عمر في مذكراته حينما قال:" كنّا نعتقد أنّ اللوم في الحرب يقع على الطّرف المنهزم، لكن اتّضح أنّنا كلّنا مسؤولون عن الذي حدث ولم نكن نستطيع أن نبرّر الحرب التي دارتْ رحاها داخل الحزب والمجتمع".

أتذكر عقب الإعلان عن الخبر ان حمما من قذائف دبابة كانت تقف أمام بوابة الإذاعة لحراستها، انهالت علينا، تقتل وتحرق الكثير من زملائي الذين تواجدوا معي في ذلك المبنى. اصبت واخرين جراء القصف وقتل عدد من الجنود وأشهر محلل ومعلق سياسي في الاذاعة حينها الشهيد جعفر عيدروس.  صور واسماء كثيرة محفورة في ذاكرتي ممن كانوا معي في هذه اللحظات الصعبة، هم من خيرة كادر الاذاعة و الإعلام، مازال الكثير منهم حي يرزق، لكن الخسارة لن تعوض ممن فقدناهم من الطرفين والتي أثرت في النسيج الاجتماعي وهزت كيان الدولة انذاك. ما زال هناك من يستجر هذا الحدث حتى اللحظة رغم المحاولة في عملية محو ذكرى هذا اليوم الاسود واستبداله بالاحتفاء سنويا منذ 2007م بيوم التصالح والتسامح الجنوبي ولكني مازلت أشهد تلك  التمترسات والممارسات الطاغي عليها صفة المناطقية والولاءات القبلية الضيقة التي أفرزتها تلك الحرب بكل عفونتها ولعل ما نشهده اليوم من الإعلان عن عدد من المكونات السياسية الجنوبية تلك التي يسعى البعض منها من الاستئثار بالجنوب والأنفراد بالسلطة واكسابها طابعا مناطقياٍ من خلال تناول ضحايا حرب 1986م والعمل على إقصاء القوى الوطنية الاخرى وكأن الضرر كان قد وقع على منطقة بعينها دون سواها من مناطق الوطن هو خير شاهد على ان التصالح والتسامح مازال بحاجة إلى تجدير وعمل دؤوب وقناعات حقيقة  صادقة خاصة وأن الاثار والمترتبات جراء حرب 1986م  اصبحت هم وطني شامل النتائج والأثر والتبعات وعلى ذلك ومن اجل تحقيق مبدا التصالح والتسامح الحقيقي والذي نتطلع منه الى ما نأمله في استعادة اللحمة والنسيج الاجتماعي، فإنه ينبغي علينا ان نتجاوز ظاهرة الخطاب الإعلامي والحشد المليوني المناسباتي والسعي الحقيقي نحو الاستقرارا السياسي والامني الذي تضمنه وتحققه دولة النظام والقانون التي سوف تهيئ البيئة المواتية للتصالح والتسامح حيث تلعب فيها التوافقات في أجواء امنة مستقرة دورا  رئيسيا في الحل الممكن والمعالجة وفق قانون العدالة الانتقالية و تشريع جبر الضرر.  

لا شك ان احداث يناير قد شكلت منعطفا هاما في حياتنا وحياة الحزب الاشتراكي اليمني بل وفي المجتمع كله،و أثرت على الجميع بصورة مباشرة وغير مباشرة لكنها تظل هي الحرب الملعونة التي يمكن ان تصنع تاريخا جديدا يختاره كل من اكتوى بها وفي مقدمتهم عشاق بناء المستقبل الأمن المستقر.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي