لا دينية لا علمانية.. بل دينية -علمانية

كتب
الثلاثاء ، ١٠ يوليو ٢٠١٢ الساعة ٠٥:١١ مساءً
بقلم / عبدالاله تقي
بقلم / عبدالاله تقي

ترتفع موسيقى الإيقاعات السياسية النخبوية والشعبية اليمنية على نبرة وترين متنافرين هما الدولة المدنية القائمة على الصبغة الدينية والعلمانية. فأنصار كل وتر يحلل نظرياً أسباب فشل طرح الطرف الآخر ونجاح طرحه، دون إسقاط نظريتهم على الواقع وعلى تجارب حديثة حقيقية  يمكن أن تجعل من نظرية أي منهم نموذجاً يمكن أن يلجم الأفواه. ففي النطاق الجغرافي، لم يوجد نموذج واحد لأي دولة عربية أو إسلامية متطورة وناجحة في إدارة شئون الحياة وتطويرها بشكل مرضٍ، وإن احتج أحدهم بوجوده، فليس السبب الحقيقي لنجاحه إلا لربط التصميم العلماني للدولة بالعوامل الثقافية والدينية لمواطني الدولة. بمعنى آخر، لا يمكن نسخ تجربة شرقية أو غربية بتفاصيلها وتطبيقها كاملةً على الأرض العربية أو الإسلامية.

فعند النظر إلى الوراء التاريخي، لم تبلغ الحضارة العربية والإسلامية أوج ازدهارها العلمي والحضاري إلا عندما تأثرت بفلسفات وحضارات الشرق والغرب حين تركزت عواصم السلطات بالقرب من دول تلك الحضارات، في الأندلس ثم قبل ذاك في بغداد ثم دمشق.

ولفهم ما سبق، دعونا نستمع هنا إلى تحليل أشكال المواجهة التي استخدمها العرب والمسلمون ضد أوروبا التي طردتهم من أوروبا في العصور الوسطى، والتي أعقبتها بحملات الصليبية متتالية للعالم الإسلامي– وتطورت فيما بعد إلى استعمار كامل وتقسيم لأراضيه. يصف عميد المؤرخين الغربيين أرنولد توينبي (الذي حلل 21 حضارة تاريخية عبر التاريخ) ان أساليب المواجهة الثقافية العربية تمثلت في أسلوبين، الأول هو أسلوب التقوقع على الذات والانطواء على الماضي التليد بحثـًا عن السلوى في ازدهار ماضيهم، وقد تجسد هذا الأسلوب في النزعة السلفية التي تمترست وراء التشدد الديني كدرع لرفض كل ما يتعلق بالآخر ومواجهة عدوانه؛ أما الأسلوب الثاني فهو التلبس (الكاذب) بسمات الحضارة الغربية كوسيلة لدرء الخطر، والمتجسد بالنزعة العلمانية التي تنكر دعاتها لهويتهم الدينية وموروثاتهم الثقافية ورموها خلف ظهورهم على أمل اللحاق بركب التقدم.

ويرى  توينبي أن هذين الاسلوبين فاشلين، ذلك أن الأول لم يضف لهم شيئاً مع تغير أوضاعهم السياسية والاجتماعية والثقافية ولمواجهة حقيقية لعدوهم، وإنها لا تزيد عن راسب حضاري متحجر أما الثاني فقد ينجح، لكن نجاحه شكلي و"تقليد" لأنه لا يقدم إبداعًا ضمن الحضارة القائمة.  بعبارة أخرى، يمكننا القول أنه إذا كان مشروع الفريق الأول (السلفيون)، فهو ليس بالمعاصر، وإذا كان الفريق الثاني ( المقلدون) معاصرًا، فهو ليس بالعربي ولا بالأصيل.

فإذا ما نظرنا إلى بلادنا أو بلدان العالم العربي لوجدنا أن تحليل توينبي صالحة إلى حدٍ بعيد، فتيار التقليد يتسع أكثر وأكثر دون أن نستفيد من التجربة التركية الحديثة، حيث صار المواطن التركي اليوم لا هو بالشرقي ولا هو بالغربي، يعتبر نفسه أوروبياً ويقدم نفسه للأوروبيين على أنه أوروبي ويخاطبهم – وهم الرافضين له – معاتبًا إياهم بآيات من إنجيلهم.  فلم يكن أمامهم إلا العودة شرقاً وخاصة إلى خلفيتهم الدينية الإسلامية كما هو قائم اليوم.   أما تيار السلفية فقد تقوقع داخليًا وخارجيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وغدا الوصف العالمي والمحلي له هو "الإرهاب" الذي خرج من رحمه ويهدف إلى تقويض أسس الحضارة!

هذه الأبعاد تزيد بلا شك من صعوبة الإجابة على سؤالنا المطروح في بداية المقال: هل من الممكن في ضوء واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي الراهن قيام مشروع الدولة المدنية المعاصرة التي توازي المشروع الحضاري الناجح لأسلافنا!!

لقد تغلب أسلافنا مبكراً على الإشكال الفلسفي الذي نعاني منه اليوم وهو طريقة التقريب بين أحكام الشريعة ومنطق العقل البشري والعلم. وكان خيارهم الواضح هو الحوار المنطقي والعلمي المفتوح مع الآخر من خلال التثاقف عبر حركة الترجمة دون التفريط في هويتهم العربية الاسلامية. ونحن اليوم نواجه نفس الإشكال ذاته، وهو طريقة الموائمة بين القيم الدينية والأخلاقية والجمالية ومقتضيات العلم التي لا نستطيع تجاهلها.

لذلك فما من وصول الى الدولة المدنية المبتغاة إلا بالتقارب الواعي مع الحضارات المتقدمة عبر الترجمة أو تكثيف تعليم اللغات وتطوير وتوسيع برامج واتجاهات الجامعات ومراكز البحث العلمي والحضاري والإصلاحات الإعلامية والتعليمية والاقتصادية والسياسية، إصلاحات تعليمية تضمن الحفاظ على الهوية الثقافية (اللغوية والدينية والأخلاقية والتاريخية) في وجه الغزو الفكري الذي غاد صعباً على الدولة مواجهته في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات؛ وإصلاحات اقتصادية تنتشل مجتمعاتنا من إرباكها الواسع في تمييز أولويات احتياجاتها في برامجنا الإنتاجية والاستهلاكية، وأخيرًا إصلاحات سياسية تعيد للمواطن احترامه لبعضه البعض ولكرامته في وطنه.

[email protected]

الحجر الصحفي في زمن الحوثي