خطيئة العفو!

سام الغباري
الاثنين ، ١٨ مارس ٢٠١٩ الساعة ٠٥:٤٩ مساءً

 

مر ألف عام ويزيد، واليمن يدخل في حرب ليخرج إلى معركة، ثم انقلاب وفتنة واغتيالات، وما يكاد يستقر حال دولة يكون اليمني على رأسها حتى يظهر مصاصو الدماء الجُدد على هيئة بشر في ليلة خسوف موحش.
في العصر الحديث واجهت الجمهورية اليمنية خلال 57 سنة حروبًا ضارية على السُلطة التي يراها السُلاليون حقًا دوّنوه في مؤلفاتهم وصاغوا لأجله فتاوى التكفير على من ينازعهم. اندلعت حرب الإمامة والجمهورية ثمان سنوات حتى موعد الملحمة الوطنية الكبرى التي هزمت حصار السبعين يومًا واندحرت القوى الإمامية في 7 فبراير 1968م، ولم تكد تمر سبعة أشهر حتى أحدث المستذئبون فتنة أغسطس 68م، وانتهت بجراح غائرة وفقد عزيز لقادة مميزين، وكأنها كانت شرطًا لبدء مصالحة مؤسفة في 1970م أفضت إلى تغيير المقاتلين الأوائل ونفيهم! بعد أربع سنوات وقع الانقلاب الأول في رحم الجمهورية باسم الحركة التصحيحية للراحل إبراهيم الحمدي، الذي استدعى بقية الإماميين ونفى من تبقى من خيرة المناضلين الأوائل واغتيل بعضهم في لندن، ولم يكد الرجل يستقر حتى قُتِل بطريقة بشعة، ليصعد نائبه إلى الحكم وتبدأ سلسلة حروب متقطعة في المناطق الوسطى ثم حروب متقطعة أخرى بين شطري اليمن، فنهاية أبشع للرئيس الذي كان نائبًا للحمدي، وتلبّس المستذئبون جلباب القومية والماركسية لينشروا ذئابهم في حرب الجبهة التي استمرت ست سنوات وانتهت في 1983م، وجاءت الوحدة اليمنية، فاندلعت بعدها بأربعة أعوام حرب صيف 1994م بقناع الانفصال الذي أُزهِق روحه في حرب دامت 70 يومًا فقط، ولم يكد يهدأ الحال حتى ظهر حسين بدر الدين من صعدة ليطلق أول قذيفة على الجيش اليمني في 2004م، مُعلنًا بداية ظهور مقلق للذئاب السُلالية في اليمن، وعمد إلى إحياء أقوالاً مذهبية احتل بها صنعاء في سبتمبر 2014م، ولم تنته -حتى اللحظة- تلك الحروب الخطيرة التي هزمت الجهد اليمني الباحث عن السلام والتعايش مع تلك السُلالة الرافضة لهويتها اليمنية الافتراضية.

15 سنة منذ 2004 حتى اليوم، واليمن يتنفس الدم وينفث الكراهية في حروب مستمرة ونزاعات كارثية تتعمد طمس بنيته الوطنية وهويته الحضارية بغية تجنيد أحفاد سبأ قسرًا ليكونوا جنودًا حُفاة في جيش المستعمر الفارسي الذي يتشكل عبر ميليشياته العقدية كالطوق على جزيرة العرب ومهد الحضارة الدينية والإنسانية.
في حرب «حجور» التي دامت ستين يومًا صمدت القبائل الهمدانية الكهلانية في مواجهة حصار غادر لا يُنسى، نفذّه وكلاء إيران بإرادة سفاح يتناقل هوسه التدميري تناسليًا، وقد حازت سُلالة «الوهم المقدس» امتياز ذلك الفعل الدموي الرهيب منذ ألف عام، ومع كل نهاية للموت الملتصق باليمن يولد سفاح آخر باسم جديد يذيق اليمنيين بأس العويل ويعلمهم أن الدموع رفيقهم الوحيد في عالم بلا نزاهة.
في مقابل كل هذا العنف، حاز اليمنيون امتياز «العفو» عن قاتليهم كل لحظة، تسامحوا مع أحفاد السفاح الأول الذي غزا اليمن بجيش قوامه 15 ألف طبرستاني ليؤسس فقه الموت وفتوى الإرهاب الدائم، ممعنًا الخراب في كل حصون اليمن وقصوره وأمجاده، حتى صار العفو خطيئة في زمن كهذا الذي توثق الطعنة الدامية مكانها وزمانها بالصوت والصورة، وتحجز في فضاء العالم مشهدًا أبديًا عن لحظة إبادة العائلات اليمنية المُقاوِمة بالحركة البطيئة، تحكي الكاميرا لحظات الوداع أيضًا، وصوت الثكالى وحزن النساء وقهر الرجال، مشهدٌ متكرر اخترعه الغرب لإدانة الذئاب التي تتوهم أنها ستعدو طليقة في شعابها غير عابئة بضحاياها، ومُكرِرة جريمتها كلما شعرت بالجوع والحاجة إلى ضحية تغرز فيها انيابها ومخالبها. إن هذا التوثيق الذي تمتلئ به وسائل التواصل يصوغ تعريفًا ملهمًا يؤكد أن العفو في مفهومه الحديث بات مرادفًا للخطيئة.

‏أولئك المستذئبون الذين ولدوا في اليمن، قالوا هُم «البشر الأرقى» وأن لهم علاقة عِرقية بـ»حسن نصر الله وخامنئي»، ولم تكن هذه المرة الأولى «الطارئة» أو الخطيئة المبتورة لشهوة امتصاص الدم اليمني، ورغبة التنكيل التي تسري فيهم كأنهم طُبِعوا على خِلقة واحدة، فالحَمل الوديع منهم يصفق للعنف، رافعًا يديه في وجه السماء متمتمًا عبارات الحمد على الدم المسفوح ظلمًا ومهنئًا أشباهه بانقضاء عملية الذبح بنجاح. إنه فعل كالإدمان يقترفونه في حق اليمنيين منذ ألف عام، وفي كل مرة ينسى اليمنيون ويسامحون..
يبدو أن لا أحد هذه المرة سيكرر خطيئة العفو.

الأثنين 18 مارس 2019
¤ نقلا عن صحيفة الجزيرة السعودية

الحجر الصحفي في زمن الحوثي