اليمن .. ألف حربٍ في حرب واحدة

د.مروان الغفوري
الأحد ، ٠٩ ابريل ٢٠١٧ الساعة ٠٣:٥١ مساءً
في صيف ٢٠١٤ ذكرت صحيفة الأولى، الحوثية، خبراً عن وساطة تقوم بها دولة خليجية مركزية للصلح بين الحوثيين والسعودية. في تلك الأثناء كان الحوثيون قد سيطروا على محافظة عمران وضربوا حصاراً شاملاً حول العاصمة.
 
 
سيغير الحوثيون قواعد اللعب، الحوثيون لا سواهم. الأمر الذي سيدفع الآخرين لتغيير قواعد الاشتباك. كان ذلك هو سوء التقدير الأخطر في الحياة قصيرة الأجل لمملكة الحوثيين.
 
 
وقعت محافظة تعز، منذ عامين، في مدى مدفعية الحوثيين والتشكيلات العسكرية التابعة للجنرال عفاش. بين سلسلة من الجبال والوديان في وسط اليمن تقع تعز، وفي مكان بعيد عن البحار تقع عاصمتها "مدينة تعز". المحافظة ذات الأربعة ملايين نسمة، ومصنع الطبقة الوسطى الأكبر في اليمن، تُركت لتحارب وحيدة، ثم اختصرت أهميتها في ميناء المخا.
 
 
حرر التحالف العربي ميناء محافظة تعز، المخا، وترك الباقي. يعنى التحالف العربي بتحرير المناطق التي يعتقد أنها تثير شهية الإيرانيين. لا يتعلق الأمر بنجدة اليمنيين، كما يقول صناع القرار في دول الخليج، بل في قطع الذراع الإيرانية، كما يقولون هم أيضاً.
 
 
 
حيث لا توجد ذراع إيرانية يمكن رؤيتها تصبح مأساة اليمنيين خفيفة الوزن. فها هي قوات التحالف العربي تستعد للزحف من ميناء المخا إلى مدينة الحديدة، لتقطع ما يزيد عن مائتي كيلو متراً، بينما تبعد عنها مدينة تعز قرابة الخمسين كيلو مترا. تستقبل المدينة مئات الصواريخ والقذائف العشوائية يومياً، ولا تزال واقعة تحت حصار مرير من أكثر من جهة، ومقطوعة عن باقي العالم. تثير تعز، لأسباب عديدة، شهية الحوثيين وصالح، وليس الإيرانيين. ذلك ما يدفع لهجرانها. 
 
 
 
يعمل التحالف مع المقاومة الشعبية على خوض معارك عسكرية في أكثر من جهة. على أنقاض الحوثيين يساعد في بناء جيوش صغيرة بلا عقيدة عسكرية، عازلاً إياها عن أي معنى وطني مركزي. فعندما حاول رئيس الجمهورية تغيير قائد كتيبة في مدينة عدن وجد نفسه أمام حقيقة مُرة: التحالف يبني جيشاً بلا معنى وطني، بديلاً لجيش سابق أسس كعصابة. 
 
 
تعيش المناطق المُحررة بلا معنى سياسي، ويساعد التحالف العربي في جعل الفوضى فيها أساسية. ليس هذا القول بلا دليل. فثمة جدل دائر بين التحالف العربي والأمم المتحدة حول الأهمية الحيوية لميناء الحديدة كمنفذ لتقديم المساعدات لليمنيين، ومن الضروري، وفقاً لأكثر من مسؤول أممي، أن لا تقع الحديدة ضمن دائرة المعارك. يملك التحالف العربي، وليس الحكومة اليمنية، موانئ كثيرة محررة من حضرموت إلى عدن، وأخيراً المخا. يدرك التحالف وحده لماذا هي موانئ معطلة أو غير كفؤة.
 
 
ثمة فوضى، سلسلة من الفوضى. في المناطق المحررة عمد التحالف على صناعة معارك جديدة، لا على إعادة تأهيل أجهزة الدولة الفنية. 
 
 
تبلغ الفوضى أعاليها عندما يطلع، يومياً، خطابان من عدن: خطاب الرئيس يتحدث عن اليمن الاتحادي، وخطاب محافظ عدن وهو يبدي التزام دولته بمساعدة الشعب المقهور في الدولة المجاورة التي تسمى اليمن! 
 
 
اليمن مشكلة خليجية، وهي تصبح من جديد مشكلة خليجية شديدة التركيب. فالحوثيون، وجزء كبير من سلسلة قبائل الشمال، هم عدو مؤكد بالنسبة لبعض دول التحالف العربي. بالنسبة لدول أخرى فتيارات الإسلام السياسي، مع القوى اليسارية القومية واليسارية الماركسية، هي عدو أيضاً، وثمة حساب معها لا بد من تصفيته. شرعت بعض دول الخليج حربها الشرسة ضد هذا الجزء من المجتمع اليمني في المناطق المحررة. بالنسبة لدول أخرى، أو خليط من الدول، فرابطة المصالح والقوى التي تتبع الجنرال عفاش، وهي رابطة ممتدة على نحو واسع، هي العدو. المقاومة الشعبية هي أيضاً في دائرة الاشتباه العربي، وهو ما يفسر التخلي عن أكبر محافظة يمنية تخوض حرباً ضد قوى الانقلاب: تعز. الموقف العربي نفسه ضد محافظة البيضاء، وهي محافظة حرة استنفدت نسبة كبيرة من رجالها وشبابها في مواجهة الانقلاب على مدى عامين، وتركت وحيدة.
 
 
 
وجنوباً، تنظر بعض الدول للقوى الجنوبية الشعبوية بوصفها فرس رهان في حروب ما بعد الحرب الكبيرة! بينما تراها دولة عربية أخرى عامل عدم استقرار، وحصاناً محتملاً للإيرانيين. لدينا معركة هجينة، وأصدقاء عرب قادرون على رؤية الأعداء وحسب. يعرفون ما لا يريدون، لا ما يريدون. 
 
 
 
إذا أمعن المرء نظره في تلك الخارطة فلن يتمكن، ربما، من رؤية شعب يمني خارجها. نحن بصدد "الشعب العدو" الذي هبت الدول العربية لإنقاذه من العدو. ثمة حرب، ولا سياسة، وزعمٌ أنها حرب لإعادة السياسة. بالموازاة تجري صناعة جيوش صغيرة لا تساعد، بالطريقة التي صنعت بها، على استعادة السياسة ولا القدرة الوظيفية للدولة. في السنة الأولى من الحرب هاجرت النخبة السياسية، الشمالية والجنوبية، إلى دول الخليج. هناك خاضت حرباً موازية، حرباً بينية، وتلكأ التحالف عن إجراء أي شكل من أشكال الحوار الداخلي داخل "الجماعة الوطنية"، كتحضير لزمن ما بعد الحرب. عوضاً عن ذلك غرقت النخبة السياسية في صراع يومي مر وقذر، في الآن نفسه، ضد نفسها معتقدة، بصورة ما، أنها تخوض ذلك الصراع لمصلحة جهات ما داخل التحالف العربي. تنقشع الحرب عن جزء من اليمن فتعجز السياسة والإدارة عن ملأ الفراغ المتروك. ذلك المشروع البديل لم يجر التحضير له. 
 
 
 
تخوض المقاومة الشعبية مواجهة بطولية بما تيسر لها من عناصر القوة. بموازاة تلك الحرب الوطنية يقاتل التحالف العربي عدوه الخاص، لا عدو الدولة اليمنية. ذلك ما يدفعه للرحيل مئات الكيلو مترات في اتجاه الحديدة، لا عشرات الكيلو مترات صوب مدينة تعز. إذ تبدو حياة ملايين البشر، في المحافظة، أقل أهمية من رصيف ميناء. 
 
 
 
نجد الصورة نفسها بين عدن وأبين. لا أحد يعرف ما الذي يجري في أبين، حيث مئات الآلاف يعيشون في فراغ شامل، بكل معنى. استعادة الحياة الطبيعية للناس في أبين ليست مسألة ذات معنى، فالتحالف معني بمعركة ذات طبيعة مختلفة. وفي أوقات كثيرة توضع الحكومة اليمنية نفسها في خانة الارتياب، وتقطع معها بعض الحِبال إمعاناً في قهرها وإضعافها. 
 
انهماك التحالف في فكرة "قطع اليد الإيرانية"، لا في إنهاء الانقلاب واستعادة القدرة الوظيفية للدولة، عقد المأساة اليمنية. في العامين الماضيين دأب إعلاميون عرب على القول إن تعز تحارب من داخلها ضد داخلها، وأن مشكلتها مع جزء منها قرر أن يخوض حرباً لصالح الحوثيين. الإحصاءات الميدانية جعلت من هذا الزعم مزحة قذرة. ففي شهر مارس الماضي سقط للحوثيين، في إجمالي معاركهم، مئات القتلى، ينتمون إلى محافظات عدة. ٢ من قتلاهم ينتمون إلى محافظة تعز، مقابل ٨٩ من صنعاء.
 
 
 
بعد عامين لدينا حربٌ في كل مكان. وفي أكثر من ٧٠٪ من الجغرافيا لا يوجد أثر للحوثيين ولا لأجهزة الدولة أيضاً. في حديثه لصحيفة الرياض، مؤخراً، قال هادي إن مسؤولاً إيرانياً قال لموفد رئاسي إن دولته تمد الحركة الحوثية بالأكسجين، وأن ذلك الهواء سيستمر. يختار الإيرانيون كلماتهم جيداً، ويعنونها. وإذا أنتجت هذه الحرب يمناً ممزقاً، يمن الدويلات الصغيرة وحرب الكل ضد الكل فإن الأكسجين الإيراني سيجد طريقه دائماً. وما من خيار حيال ذلك سوى مد أنابيب الأكسجين في رئة الدولة اليمنية الأم، وإنعاشها.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي