ثورة الأحذية

كتب
الجمعة ، ٠٣ فبراير ٢٠١٢ الساعة ٠١:٠٣ صباحاً

سارة عبدالله حسن

هناك أحذية تستدعي ثورة، و هنا أحذية تستخدمها ثورة، في المحصلة الحذاء سلاح فأكثر من ثلاثة آلف زوج من الأحذية التي امتلكتها أميلدا ماركوس زوجة الرئيس الفلبيني الأسبق ، كانت كفيلة بإثارة الشعب الفلبيني عليها وعلى زوجها الذي خٌلع من السلطة بعد حكم ديكتاتوري دام 1 2عاما ، و قد شاركتها الولع نفسه إلينا عقيلة تشاوسيسكو رئيس رومانيا الأسبق الذي أعدمه شعبه أواخر الثمانينات ، و يقال أن غرام إلينا بالأحذية كان أعظم من غرام أميلدا و يبدو انه ولع تربى معها منذ زواجها بتشاوسيسكو الذي كان يعمل صانعا للأحذية قبل دخوله عالم السياسة ، ايفا بيرون السيدة الأولى للأرجنتين في الخمسينيات ، كانت أيضا من المغرمات بالأحذية و كانت تطلب صنعهم من فراء حيوان المنك رغم الحظر المفروض على صيده ، و لم يكن مدهشا بعدها أن نسمع من سائق الرئيس المصري المخلوع أن سيدة مصر الاولى سوزان مبارك كانت أكثرهن تدليلا لأحذيتها ، فقد أرسلت موكبا رئاسيا لاستقبال طائرة قادمة من واشنطن ، حيث أعتقد أفراد الموكب أنهم ذاهبون الى المطار لاستقبال وفد خاص ، لكنهم تفاجئوا عندما علموا أن الضيف القادم لم يكن سوى حذاء السيدة الأولى .
إنها الأحذية التي غازلت الثورات هنا ، قد لا يمكننا اعتبارها سببا من أسباب الثورة لكنها بلا شك مظهر صارخ من مظاهر الفساد التي أدت بمجملها لانتفاضة الشعوب ، علما بان معظم قصص الأحذية هذه قد تم اكتشافها بعد سقوط طغاة هذه الدول.
في العالم المتقدم كان للحذاء وقع أخر ، ففي فرنسا تعرض وزير الخارجية الأسبق رولان دوما للمحاكمة بسبب حذاء قيمته آلف وخمسمائة دولار أهدته له صديقته الموظفة في شركة بترول ، مجرد حذاء بآلف و خمسمائة دولار أودى بوزير رفيع المستوى الى المحكمة بتهمة الرشوة ، يا ترى كم من الأحذية و الهدايا والرشاوى التي أستلمها وزراؤنا الجهابذة دون أن يحاسبهم أحد.
في اليمن لا يمكن محاسبة اللصوص أصحاب المقام العالي بل على العكس فهم يمنحون حصانة ، و في اليمن لدينا حكايا أخرى عن أحذية لا تشبه مطلقا أحذية المذكورات أنفا ، و أشهر هذه الأحذية حذاء الصحفية رشيدة القيلي و هو حذاء عادي المظهر ولكنه كما بدا لي من النوع الثقيل ( حبتين ) بحيث انه اذا وقع على وجه أحد فعينه لا ترى اي نور ، و لقد استخدمته رشيدة مرتين ، مرة عندما لطمت به وجه رئيس تحرير صحيفة البلاد بعد قذفه لاحدى زميلات المهنة ،كما لوحت به مرة ثانية في وجه عبده الجندي و المدعو يحي العابد لتطاولهم القذر عليها ، نستطيع القول اذاً أن السيدة رشيدة هي أول من قاد ثورة الجزم ، ثم تلاها بعد ذلك في العراق المذيع منتظرالزيدي عندما رمى حذاءه على جورج بوش احتجاجا على الاحتلال الأمريكي لبلاده .
كلنا لاحظنا بعدها ثورة عارمة للأحذية فعلى سبيل المثال كان أهالي بنغازي يقذفون وجه ( المقذوف به للآخرة ) بالأحذية عندما يطل عليهم في خطبة هزلية يتابعونها عبر القنوات الفضائية في شاشة عملاقة في ساحة بنغازي و نفس الأمر حصل في ساحة التغيير في صنعاء عندما تم نقل خطبة كوميدية للرئيس المحصن المخلوع ، و لقد منعت نفسي أكثر من مرة أن أدلو بدلو قذائفي معهم باعتبار ان لدي شاشة بلازما سريعة العطب استكثرت كسرها على الرئيس المخلوع المحصن إلا من غضب الله و اقتصاص الشعب ..
و في ثورة الجزم أيضا عرفنا أحذية لا تقدر بثمن ، و شباشب حمام أكرمكم الله كم وددت تقبيلها فهي عندي وعند كثيرين مثلي أغلى من أحذية أميلدا و ايفا و سوزان ودوما مجتمعين ، و كم كنا نشفق على ثوارنا و في نفس الوقت نزداد إعجابا و فخرا بهم عندما يعود بعضهم من المسيرات الى الساحة و قد فقدوا أحذيتهم خاصة في تلك المسيرات التي قوبلت بمذابح وحشية من قبل قوات الأمن المركزي و الحرس الجمهوري ، كما كان أحباؤنا الشهداء يتركون لنا أحذيتهم على الطريق كوصية مقدسة تسألنا أن نرتدي ذات الحذاء الذي يأبى السير إلا في دروب الحرية .
أشهر أحذية الشهداء حذاء الشهيد أحمد الرعيني الذي استشهد في مسيرة الحياة بعد أن تشققت قدماه و تورمت من كثرة المشي ، و كان الشهيد قد غادر ساحة التغيير في صنعاء لأول مرة بعد أشهر من انضمامه اليها و ذلك لزيارة جدته الراقدة في الإنعاش في محافظة اب لكنه قابل المسيرة في الطريق فأبت قدماه الثائرة إلا أن تعود معها الى صنعاء حيث استشهد و ترك لنا حذاءه الذي بيع في مزاد علني بمبلغ ثلاثة مليون ريال إضافة الى سيارة مرسيدس ، و انه عندنا لأعز و أغلى .
و لثورة الأحذية حديث مستمر فهذا حذاء الضابط الشجاع عمرو الحاتمي قد قٌذف في وجه محمد صالح الأحمر قائد القوات الجوية والأخ غير الشقيق للرئيس المخلوع المحصن – إلا من الله و الشعب - و أحد أركان نظامه الفاسد ، و لا شك أن هناك أحذية كثيرة ستقذف منذ اليوم في وجه طغاة و فاسدين كثر ، لذا ننصحهم بالرحيل بعد المحصن ، قبل أن تراق المزيد من مياه وجوههم – التي سودتها أعمالهم – بفعل قذيفة حذائية لا تخطئ الهدف .
شخصيا لست مع أن يحرق المرء جسده لاشعال ثورة ، و لكني سأظل أشعل شمعة كل عام لإحياء ذكرى البوعزيزي البطل ، كما أني لست مع أن يطلق الثائر سراح قذيفته الحذائية طالما ولديه وسائل أخرى للاحتجاج ، لكني سأظل أقدس هذه الأحذية التي رأت أن مستوى مرماها لا يرقى لأن نتعامل معه الا بهذه اللغة .
ومن اليوم أيضا سأعيد حساباتي مع أحذيتي و سأترك عادة أن أهمل معظمها في خزانة الأحذية لأهري أكثر واحدة منها ارتحت في المشي بها ، أظنني في حاجة للاعتناء بجزمي و عمل مناوبة لبس بينهم ، من يدري فقد تدخل إحداهم التاريخ اذا تخليت عن رأيي في عدم استخدام الأحذية كقذيفة في وجه اي مفتري ، فهذه الرغبة تراود نفسي أحيانا كلما رأيت صراصير الفساد تزداد بجاحة في وضح النهار في مقر عملي حيث عجزت ثورة المؤسسات عن إجتثاتهم ، و لا أنكر أنها تراودني أيضا عن جزمتي كلما خرجت من بيتي و رأيت الدمار الشامل الذي أحدثه البناء العشوائي في شارعنا و القمامات المنتشرة بصورة بشعة في غياب المسؤولية لدى مسؤولي مدينة عدن.
لكنني عندما أكاد أتعثر و أسقط بسبب الأوضاع المستعصية تحت قدمي تطير مني فكرة القذف بحذائي في وجه هؤلاء العشوائيين ، فأشد على أصابع قدمي متمسكة بحذائي كي لا أفقده ففي وسط هذه الأحجار ومياه المجاري و القمامات المنتشرة على الطريق أصبح من الصعب أن أسير دونه ، فأن حصل و فقدته في حالته المزرية هذه لا يمكن لأحد أن يظن انه قد يكون حذاء سندريللا فيتكرم بإرجاعه لي.
عفوا حذائي .. لقد عرفت قيمتك ... لن أستخدمك اليوم كقذيفة ... لكن من يدري ، فالصراصير كثيرة و الثورة لا زالت مستمرة .

الحجر الصحفي في زمن الحوثي