عن سقوط المدينة الآثمة!!

بلال الطيب
السبت ، ٢٤ سبتمبر ٢٠١٦ الساعة ٠١:٤٤ مساءً
توالت الثورات ضد الإمام يحيى في «صنعاء، والجوف، وحاشد»، وبعد إخمادها استعاد تهامة وميناء الحديدة من الأدارسة المدعومين من الإنجليز، لتأتي بعد ذلك الثورة الحقيقية لقبائل «الزرانيق»، ثم انتكاسة جيشه «الحافي» أمام الانجليز والقوات السعودية «1934»، ارتخت بعد ذلك قبضته، وتبددت هيبته، وبدأ الأحرار يفكرون جدياً في كيفية التخلص منه.
 
 
انضم ولده سيف الحق إبراهيم إلى صفوف الثوار، وكانت جريدة «صوت اليمن» من عدن، تنشر خطاباته الموجهة، وقد كتب في إحداها مخاطباً أباه: «عليك أن تقي أسرتك والشعب من خطر الانفجار»، وبالفعل حصل الانفجار، وحسم الثوار أمرهم بثورة لبست العباءة الزيدية، «18فبراير 1948»، ونصبوا عبدالله الوزير إماماً دستورياً، وتلقب بـ «الهادي»، وهو بشهادة كثيرين كان أسوأ من سلفه.
 
استغل ولي العهد «أحمد» حادثة مقتل أبيه، اعلن نفسه إماماً وتلقب بـ «الناصر»، وحشد الحشود لدخول صنعاء «المدينة الآثمة» حد وصفه؛ والقضاء على منافسه، وتأديب الأحرار «العصريين»، وأرسل رسالته الشهيرة لـ «ابن الوزير»: «وإني زاحف إليك بأنصار الله الذين سترى نفسك تحت ضرباتهم معفراً»، وبدعم سعودي دخل صنعاء، ومعه قرابة الـ «250,000» مقاتل، لا هدف لهم إلا النهب وتدمير العمران، منهياً بذلك إمامة «ابن الوزير»، التي استمرت لـ «26» يوماً.
 
كان عهد الطاغية أحمد اسوأ من حكم أبيه، أسرف في سفك الدماء، قتل أخوه «إبراهيم» بالسم، وأعدم «ابن الوزير» و«36» ثائراً بدون محاكمة، ووصلت به الجرأة على أن يقتل أحد أعوانه، ويدعى حمود السياغي بدون سبب؛ فقط لأنه لا يستلطفه، وأنه حد وصفه «دمه ثقيل»، وكان دائماً ما يردد: «والله لأخضبن يدي بدماء العصريين حتى القى الله وهو راض عني».
 
 
في «25مارس 1955» قامت انتفاضة المقدم أحمد الثلايا، لم تخرج هي الأخرى عن العباءة الزيدية، أجبر الإمام أحمد أن يتنازل بالإمامة لأخيه عبدالله، وحين التجأ «البدر» إلى حجة، آثر الأمير عبدالله الاعتزال حقناً للدماء، وصارح الطاغية أحمد بذلك، إلا أن الأخير أوهمه أنه معه، وأن أمر تنازله محسوم؛ بل وكتب لولده برسالة يدعوه فيها للرضوخ لأوامر عمه، وختمها بقوله: «وإني أحب أن ألقاك عند الله وأنت شهيد، على أن ألقاك وأنت قائد فتنة».
 
انطلت الخُدعة «التقية» على الإمام الجديد؛ الذي تلقب بـ «المتوكل»، وحين نصحه البعض بإعدام أخيه الإمام المعزول، لأنه غير مأمون الجانب، زجرهم وصدق أنه الآمر الناهي، ولم يفق من حلمه إلا بعد خمسة أيام، وإذا بمن عفا عنه بالأمس؛ يأمر بفصل رأسه عن جسده، وفصل رؤوس «16» آخرين، منهم أخاه الشقيق «العباس».
 
بعد عديد محاولات فاشلة لاغتياله، توفى «الناصر» أحمد في مدينة تعز «19سبتمبر1962»، خلفه ولده محمد البدر وتلقب بـ «المنصور»، وأعلن في «21سبتمبر» من الجامع الكبير بصنعاء «خارطة طريق» حكمه، وأنه لن يحيد قيد أنمله عن نهج اسلافه، ونُقل عنه قوله: «إذا كان أبي يقطع من الرأس فأنا سأقطع من الوسط»؛ ليهرب بعد خمسة أيام بصعوبة، بعد أن أعلن «الثوار» بقيادة قائد حرسه ورئيس أركان جيشه عبدالله السلال قيام «الجمهورية اليمنية العربية».
 
ثبت «النظام الجمهوري» أركانه في مناطق «اليمن الأسفل»، أما مناطق «اليمن الأعلى» فقد ظلت متذبذبة لا تستقر على حال، وبازدياد تدفق المال والسلاح من النظام السعودي، بدأ الإماميون بإنشاء مراكز قيادة لهم في نجران، أستنجد الجمهوريون بجمال عبد الناصر فأمدهم بسرية، ثم عززها بـ «70,000» مقاتل؛ لتساهم مزاجية اللاعب الأجنبي في تعميق الفجوة بين الفرقاء، كما كان لحالة «اللاوفاق» الجمهوري، و«الوفاق» الإمامي، أثره في ترجيح كفة الأخيرين.
 
عرض الإماميون بواسطة الأمير محمد بن الحسين على عبد الحكيم عامر سحب القوات المصرية من اليمن مقابل اعترافهم بالنظام الجمهوري، لم تكد القوات المصرية تتم انسحابها نهاية نوفمبر «1967»، إلا والقوات الإمامية تحاصر صنعاء، ومن جميع الجهات، وقد تبنى ذات الأمير حينها حركة مسلحة أسماها «أنصار الله»، معظم أعضائها انضموا إلى الصف الجمهوري فيما بعد.
 
 
دبَّ اليأس حينها في نفوس الثوار، وبدأ البعض يتذمر ويعلنها صراحة بأن لا حل إلا بإقامة دولتين، «زيدية» في الشمال، و«شافعية» بالجنوب، كان شباب الثورة حينها أكثر حماساً، وحين هرب القادة الكبار تولى الضباط الصغار مهمة الدفاع عن «صنعاء»، و«الجمهورية»، بعزيمة لا تقهر.
 
مع نهاية العام «1968» تخلى المرتزقة الأجانب عن المعسكر الإمامي، وماهي إلا شهور قليلة حتى تصادم الأمير محمد بن الحسين مع «البدر»؛ وأعلن الأخير تخليه عن القضية الإمامية، فانتهت بذلك سلطته الشرعية، وسلطة عمه الحسن الأسمية، فتم تشكيل مجلس إمامة برئاسة محمد بن الحسين، وعضوية علي بن ابراهيم، وأحمد الشامي، وآخرين، وتشكيل الوزارة برئاسة عبدالله بن الحسن، كرئيس بالوكالة.
 
بعد شهور قليلة، وتحديداً في «يوليو1969»، تم في صعدة اغتيال عبد الله بن الحسن القائد الإمامي الأبرز، وهو في طريقه لصلاة الجمعة بجامع جده «الهادي»، استعانت الإمامة الزيدية بما تبقى لها من أنصار، هجمت على قبيلة «سحار» المتهمة بقتل «الأمير»، استبيحت المنطقة، هدمت منازلها، نزح سكانها، لتأتي بعد ذلك معركة «وادي نشور»، حيث استطاعت قوات قبلية كبيرة، بقيادة مجاهد ابو شوارب أن تطرد القوات الإمامية إلى خارج الحدود، الا أنهم عاودوا السيطرة على صعدة بعد شهور قليلة، ولم تعد لأحضان الجمهورية إلا بعد المصالحة الوطنية.
 
عاد «الهاربون» الذين خذلوا صنعاء إبان «حصارها»، استجلبوا معهم مناطقيتهم وأحقادهم الدفينة، عمدوا على قصقصة أجنحة أبطال ملحمة الـ «70» يوماً، من أبناء «الرعية الشوافع»، وتسريحهم من الجيش، وقتل وسحل قاداتهم في ميدان التحرير، كان حينها التحالف الزيدي بشقيه «القبلي ـ الهاشمي» يتشكل بصمت، ليزداد قوة ومتانة بعد المصالحة الوطنية «مارس 1970».
 
صحيح أن الإمامة الزيدية عادت لانكماشتها الاعتيادية، إلا أن عودة أعضائها الفاعلين لتقاسم السلطة والثروة، وممارسة مهامهم داخل النظام الجديد، ساهم إلى حدٍ كبير في إقصاء أبناء مناطق «اليمن الأسفل»، وحرمانهم لسنوات من الالتحاق بالكليات العسكرية، واحتكار المناصب القيادية العليا، وتشكيل جيش مناطقي ولاءه للقبيلة.
 
وما حدث في «21 سبتمبر2014»، من انتكاسة صادمة، ما هو إلا نتيجة متوقعة لتلك التراكمات، وامتداد لـ «خارطة طريق» الإمام البدر التي أعلنها بالجامع الكبير بنفس التاريخ قبل «52» عاماً، والآن، وبعد عودة حكم الإمامة الزيدية بمسماها الجديد «الجمهورية المتوكلية»؛ بقي التذكير: أنه لولا الجيش «الوطني» ما صمدت صنعاء «1968»، ولولا الجيش «اللاوطني» ما سقطت صنعاء «2014».
الحجر الصحفي في زمن الحوثي