عبدالله ابن حمزة.. طاغية يتكرر!!

بلال الطيب
الأحد ، ٠١ مايو ٢٠١٦ الساعة ٠٣:٥٢ مساءً
طغيان الدولة الدينية اسوأ بكثير من طغيان الحاكم الفرد، قد ينتهي الأخير بموت الزعيم الأوحد، أما الأول فيبقى ما بقيت الدولة، كونه يرتكز على اجتهادات الإمام المؤسس، وتفسيراته الذاتية للنصوص الدينية، والحاكم هنا أياً كان، فهو «ابن السماء»؛ والمحكوم «ابن الأرض»؛ وما على الأخير سوى الطاعة والانصياع، عبادة لله، وإرضاء للإمام.
 
الإمام الطاغية عبدالله ابن حمزة، أحد المؤسسين الأوائل لـ «الهاشمية السياسية» في اليمن، ما زالت «كتبه، ومكاتباته، وأشعاره» الأكثر أثراً وآثاراً في الفكر الزيدي، وما زالت سيرته الأكثر ظلماً وعدواناً في تاريخ الإمامة، هو مُلهم الأئمة ومنظرهم الأبرز، فهذا الإمام أحمد يحيى حميد الدين، في إحدى حواراته الصحفية، يعتبره قدوته، ويشبه نفسه به، وهذا طاغية العصر عبدالملك الحوثي، يقتفي أثره خطوة خطوة، ويقلده فكراً وسلوكاً، والمتأمل لتصرفات وخطابات الأخير، يدرك ذلك جيداً.
 
قَـدِمَّ الأيوبيون «أنصار السنه» ـ كما اسماهم بعض المؤرخين ـ إلي اليمن «569هـ»، بقيادة الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي، شمس الدولة «توران شاه»، الذي قضى بأقل من عام على جميع الدويلات اليمنية المُتصارعة، «بنو مهدي في زبيد ـ خوارج»، و«بنو زريع في عدن ـ اسماعلية»، و«بنو حاتم في صنعاء ـ اسماعلية».
حين سيطر القائد الأيوبي على مدينة «عدينة» دون حرب، أنشد «الرعيني» قائدها المستسلم يقول:
 
تعز علينا يا عدينة جنة
نفارقها قسراً وأدمعنا تجري
 
ظن «توران شاه» من صدر البيت، أن «تعز» هو اسم مدينة «عدينة»، فأطلق عليها ذات الاسم، ومن لحظتها صار متداولاً بين ألسنة العامة، وكتب المؤرخين.
 
قرر «توران شاه» العودة إلى الشام «571هـ»، وأناب عنه أربعة من رجالاته، استمروا يبعثون له الأموال حتى وفاته بمصر «576هـ»، اختلفوا واستقل كل نائب بما لديه من أعمال، ولم تستقر الدولة ويتقوى أمرها، إلا بمقدم الشخصية الأيوبية الأقوى، الأخ الأصغر لصلاح الدين، سيف الاسلام طغتكين «579هـ»، أبتني مدينتي تعز والجند، وأتخذهما مقراً لحكمه، وفي عهده توحدت اليمن للمرة الثالثة في تاريخها، وحين توفى بالجند «593هـ»، أعلن عبدالله بن حمزة من الجوف بنفسه أماماً، وتلقب بـ «المنصور».
 
ساهمت الخلافات «الأيوبية ـ الأيوبية»، في تمدد «ابن حمزة» حتى صنعاء وذمار «595هـ»، وهي سيطرة لم تدم سوى بضعة أشهر، وكانت سبباً لأن يوحد الأيوبيون صفوفهم، تحت راية اسوأ ملوكهم، المعز بن طغتكين، وقد جمع «ابن حمزة» كما ذكر «ابن كثير»، نحو «12,000» فارس، ومن الرجالة جمع كثير، فأرسل الله صاعقة نزلت عليهم، ولم يبق منهم سوى طائفة، غشيهم الأيوبيون، وقتلوا منهم «6,000».
كانت طموحات «ابن حمزة» التوسعية، تذهب إلى ما هو أبعد من صنعاء وذمار، بل واليمن وشبه الجزيرة العربية قاطبة، ويؤكد ذلك قوله:
 
لا تحسبـنْ أن صنعا جل مأربتي 
ولا ذمـار فتشمت بيْ لحسادي 
واذكـر إذ شئت تشجيني وتطربني 
كـَرّ الجياد على أبواب بغداد
الخلافات «الزيدية ـ الزيدية»، بدأت تطفوا على السطح، في البدء تمرد يحيى ابن الإمام أحمد بن سليمان «595هـ»، كان حاكماً لصعدة باسم الأيوبيين، تحصن في «مبين» حجة، ثم هرب إلى صنعاء، أعلن مولاته للأيوبيين مرة أخرى، وأخذ في نشر الدعوة لـ «المعز»، بل وشتم «ابن حمزة»؛ ودعاه بـ «مسيلمة الكذاب»، وحين ظفر به الأخير، حبسه، ثم قتله خنقاً بعمامة كان يرتديها.
تجسدت الخلافات «الزيدية ـ الزيدية» بصورة أعنف، بظهور «المطرَّفية»، وهي جماعة تنسب إلى مطرف بن شهاب، من أعلام أواخر القرن الخامس الهجري، كان مقرها منطقة «وقش»، خالفوا السائد من عقائد الاعتزال، وعقائد الزيدية، وتخلوا عن شرط البطنين، والتفضيل بمجرد النسب، وأنكروا على «ابن حمزة» مخالفته لبعض نصوص «الهادي»، واختياراته في الفروع، ليدخل معهم في نقاشات طويلة، وحين أعلن بنفسه إماماً بايعوه، إلا أنه تنكر لهم، وكفرهم، ونُقل عنه أنه كتب على جدران أحدى المساجد:
 
أقسمت حلفة صـادق بر وفي
لا يـدخلنك ما حييت مطرفي
فكتب أحد «المطرَّفية» تحتها:
أو مـا علمت بأن كـل مطرفي
عما عمـرت من الكنـائس مكتفي
أنتم ومسجـدكم ومذهبكم معا
 
كـذبالة في وسط مصباح طفي
 
لم يقد «ابن حمزة» المعارك الحربية بنفسه، ولم يستقر في منطقة بعينها، بل ظل متنقلاً ما بين براقش، والجوف، وصعدة، وحوث، وحجة، وشبام كوكبان، وثلا، وأثافت، إما ساعياً لتثبيت سلطانه، وإما هارباً من مطاردة الأيوبيين، وحين اغتيل الملك المعز «598هـ»، تقوى أمره وسيطر على أغلب مناطق «اليمن الأعلى».
 
أستجمع الأيوبيون قواهم، واستعادوا في ذات العام ذمار وصنعاء، وصولاً إلى البون الأعلى، واعترفوا بسلطات «ابن حمزة» على «الظاهران، والجوف، وصعدة»، على أن يدفع «مئة حمل مؤقرة حديدا من صعدة، وعشرون رأساً من الخيل»، وعقد الصلح بينهما على ذلك، لم يدم طويلاً؛ لتتجدد المواجهات «600هـ»، وفي قرية «الصف» مشرق «نهم» دارت معركة كبرى، أنتصر فيها الأيوبيون، وقتل خلق كثير من أنصار «ابن حمزة»، على رأسهم قائد جيشه شقيقه «إبراهيم».
 
أرسل «ابن حمزة» برسالة طويلة لأبناء «الصف»، يهدِّدهم فيها بنقل جثمان أخيه عنهم؛ إذا لم يبنوا على قبره مشهداً؛ ويتبركون به؛ وهي رسالة طويلة، نقتطف منها: «بلغنا أنكم هاجرون لقبره، قالون لمصرعه، قد صغّرتم منه ما عظّم الله سبحانه جهلاً، وجهلتم ما علم الصالحون حيرة وشكاً، فهلا استشفيتم بتراب مصرعه من الأدواء، وسألتم بتربة مضجعه رفع الأسواء، واستمطرتم ببركة قبره من رحمة ربكم طوالع الأنواء, وعمَّرتم على قبره مشهداً، وجعلتموه للاستغفار مثابة ومقصداً، ونذرتم له النذر تقرباً، وزرتموه تودداً إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وإلينا تحبُّباً».
وحين لم يلتزموا، أرسل إليهم: «ألا فاعلموا بعد الذي بلغنا عنكم، أنا قد قَلَيْنا له جواركم، ورغبنا به عن داركم، وعزمنا بعد الخيرة لله سبحانه وتعالى على نقله من أوطانكم، إلى من يعرف حقه، ويتيقن فضله وسبقه»، وبالفعل نقل جثمان أخيه إلى منطقة «الزاهر» بالجوف.
استمرت المواجهات بين الطرفين، وهي بمجملها معارك كر وفر، وصل الأيوبيون من خلالها إلى شبام كوكبان، وحجة، وحوث، وبراقش، إلا أن «ابن حمزة» تمكن من استعادة أغلبها، لتتجدد المصالحة «602هـ»، ثم نقضت، ثم جددت بصيغتها الأولى «605هـ»، أما القبائل فقد تأرجحت موالاتها بين الجانبين، ولم تستقر كعادتها على حال.
 
تفرغ «ابن حمزة» بعد ذلك لـ «المطرَّفية»، الذين تكاثروا، وصارت لهم صولات وجولات فكرية في معظم المناطق الزيدية، وحين بادروا بإرسال مجموعة من زعمائهم وعلمائهم للمناظرة، ونزع فتيل الخلاف قبل أن ينفجر، اعتذر عن ملاقاتهم؛ متحججاً بانه سيتوجه إلى الجوف، لم تمض أيام قلائل، حتى أرسل إليهم أخاه «يحيى» بجيش كبير، لكسر شوكتهم وإلى الأبد، وقال في ذلك:
لست ابـن حمزة إن تركت جماعة
متجمعين بقاعة للمنكر
ولأتركنهم كمثل عجـائز
يبكين حـول جنازة لم تقبر
ولأروين البيـض من أعناقهم
وسنابك الخيل الجيـاد الضمر
ذكر أحمد محمد الشامي، في كتابه «تاريخ اليمن الفكري»، أن «ابن حمزة» نكل بـ «المطرَّفية» أشد تنكيل، وقتل منهم حوالي «4,000» رجل ـ وقيل «100,000» ـ وسبى نساءهم، واستعبد أطفالهم، وهدم دورهم، ومساجدهم، وصادر أملاكهم، وحين اعترض مجموعة من علماء الزيدية عليه، كفرهم بالإلزام، كما أشار أحمد بن عبدالله الوزير إلى ذلك، في كتابه «الفضائل».
 
أرسل أحد علماء «المطرَّفية»، ويدعى الحسن بن محمد النساخ، برسالة إلى الخليفة «الناصر» العباسي ببغداد، يطلب منه القضاء على «ابن حمزة»، فأرسل «الناصر» إلى الأيوبيين في مصر يحثهم على ذلك، وبالفعل توجه الملك المسعود بن الكامل بحملة كبرى إلى اليمن «611هـ»، بالتزامن مع سيطرة «ابن حمزة» على أغلب مناطق اليمن الأعلى، وحين علم الأخير بتوجه الجيش الأيوبي نحوه، أنسحب من ذمار، ثم من صنعاء، بعد أن خرب دورها، وهدم أسوارها، وسبى نسائها.
 
السبي، اسلوب شنيع انتهجه «ابن حمزة» في حروبه العبثية، وروي عنه قوله: «أما السباء فنحن الآمرون به»، ومع هروبه الأخير من صنعاء، ذكر الخزرجي في «العسجد المسبوك»، أنه سبى عدد كبير من النساء، من العرب والعجم، كما ذكر بعض المؤرخين، أنه سبى مجموعة من نساء تهامة في إحدى معاركه، وأن أخيه «يحيى» سبى حوالي «600» امرأة من صنعاء، بعضهن أيوبيات، وقسمهن في قاع «طيسان» بين رجاله، وقد اختار «ابن حمزة» واحدة منهن لنفسه، وهي أيوبية من «آل قنطور»، وأنجب منها ولد أسماه «سليمان»، وقال في ذلك:
«سليمان» بيتاك من هاشم
ومن «آل قنطور» بيتا شرف
سبق لـ «نشوان الحميري»، وهو من نسل حسان ذي مراثد، من ملوك «حمير»، أن فاخر عدنان بقحطان، وغادر بلدته حوث إلى اليمن الأسفل، بعد أن اختلف مع أنصار الأئمة الزيود، وقد ذكر ياقوت الحموي في «معجم البلدان» أنه استولى على عدة قلاع وحصون في جبل «صبر»، وصار ملكاً، ونقل عنه قوله:
آل النبي هم أتباع ملته
من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن من آله إلا قرابته
صلي المصلي على الطاغي أبي لهب
كانت وفاة نشوان الحميري «573 هـ»، بالتزامن مع ذيوع صيت «ابن حمزة»، أزعجت الطموحات «النشوانية» الأخير، خاصة بعد أن صار إماماً، فأباح قتل اي يمني غير فاطمي يتطلع للرئاسة والحكم، منعاً لظهور «نشوان» جديد، وروي عنه قوله: «أن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يخلق آدم وما يزال خلبة بين يديه، أخذ قبضة من نوره وأدخلها في آدم؛ فكانوا الخمسة أهل الكساء»، ورد على «الحميري» بأرجوزة طويلة، نقتطف منها:
 
ما قولكم في مؤمن صوام
موحد مجتهد قوام
وماله أصل إلى آل الحسن
ولا إلى آل الحسين المؤتمن
بل هو من أرفع بيت في اليمن
قد استوى السر لديه والعلن
ثم انبرى يدعو إلى الإمامة
لنفسه المؤمنة القوامة
فقلت: مهلا يا أخا الزهادة
إنا أخذنا عن رواة سادة
بأنهم للمسلمين قادة
وحبهم من أفضل العبادة
وأضاف:
حمدا لمن أيدنا بعصمته
واختصنا بفضله ورحمته
صرنا بحكم الواحد المنان
نملك أعناق ذوي الإيمان
ومن عصانا كان في النيران
بين يدي فرعون أو هامان
إن بني أحمد سادات الأمم
بذا لهم رب السماوات حكم
من أنكر الفضل لأذنيه الصمم
من عنده الدر سواء والحمم
نقول هذا إن شكا وإن عتب
لا يستوي الرأس لدينا والذنب
رغم تعصب «ابن حمزة» الهدوي؛ إلا أنه أنتقد «الاثنى عشرية» في كتابه «العقد الثمين» بمئات الصفحات، وفنّد أساطيرهم, وربطهم بعبد الله بن سبأ، والمفارقة العجيبة أنه اتفق معهم في ترك روايات الأحاديث النبوية، بحجة أن رواتها ليسوا من آل البيت، وحين عاب العلامة الشافعي عبدالرحمن بن أبي القبائل المذهب الزيدي لضعفه في الأخذ بالأحاديث النبوية، رد عليه «ابن حمزة» في كتابه «المجموع المنصوري»:
كم بيـن قولي عن أبي عـن جده
وأبي أبي فهـو النبي الهادي
وفتى يقـول: حكى لنا أشياخنا
ما ذلك الإسنـاد من إسنادي
 
بوفاة «ابن حمزة» بمدينة كوكبان، مطلع العام «614هـ»، تنفس الأيوبيون الصعداء، وانقضوا بسرعة خاطفة على أغلب مدن وحصون اليمن الأعلى، تخلت القبائل عن مناصرة الأمير الضعيف عز الدين محمد، الذي حل مكان أبيه على وجه الحسبة، دون أن يعلن بنفسه إماماً, ليموت متأثراً بجراحه، بعد أن قاد معركة خاسرة لاستعادة صنعاء «623هـ».
 
أما صعدة، معقل الزيدية المُقلق، فقد ظلت عصية على الأيوبيين، منها أعلن «المعتضد» يحيى بن المحسن بنفسه إماماً، لم تتجاوب معه القبائل، فتفرغ للتأليف والعبادة، لتعود الإمامة الزيدية للضعف والانكماش، تزامناً مع ميلاد «الدولة الرسولية».
الحجر الصحفي في زمن الحوثي