فـتـح فـارس

د. كمال القطوي
الجمعة ، ٢٥ مارس ٢٠١٦ الساعة ٠٨:٤٢ صباحاً

نشأت أول إمبراطورية في بلاد فارس في القرن السادس قبل الميلاد، ثم تحولت إلى قوة عالمية غزت أوروبا في حاضرتها اليونانية ؛ لكن أبطال "أثينا" دافعوا بشراسة عن ديموقراطيتهم الوليدة وهزموا الأسطول الفارسي، فتراجع الغزو الفارسي وبقيت حدود المعركة بين فارس والروم في أطراف الشام العربية.

 

حتى جاء الإسلام فانطلق جيش الفتح باتجاه العراق ؛ وجعل عمر بن الخطاب يتوجس من هذه الامبراطورية العنيدة فقال يوماً : "وددت لو أن بيني وبين فارس جبلاً من نار، لا أغزوهم ولا يغزونني".  فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين أنما هم ثعلب في جحر فإن تركته أفسد عليك مزرعتك، وإن قتلته أمنت منه. فقرر الفاروق أن يتخلص من الإمبراطورية المتمردة وتم له ذلك.

لكن جموع الفرس المنهزمة شعرت بحنق شديد أمام هذا الانتصار الذي أحرزته عليهم أقل الشعوب تحضراً في نظرهم، فظل الوجدان الفارسي يتلمظ من حرراه الفقد، وانشطرت الروح الفارسية إلى قسمين : قسم التحق بعالم الإسلام فساهم في حضارته من خلال المعارف والفنون والمنجزات الحضارية، واستقبلتهم الساحة الإسلامية كرموز إسلامية لها كأبي حنيفة والغزالي ومسلم وغيرهم.

 

وقسم آخر ظل مشدوداً إلى ذكريات الامبراطورية القديمة ، ولم يكف عن التبرم من العرب، ونلحظ هذا في الأدب الفارسي القديم وسجالات الجاحظ مع " بشار " وغيره.

لكن أخطر التفاف سجله الفرس ضد العرب كان من خلال راية آل البيت الذي رفعه الشيعة، وجاسوا به ديار العرب وسجلوا اختراقات خطيرة في الفكر الإسلامي، وفي الساحة العربية.

 

صحيح أن التشيع عربي المنشأ، وصحيح أن إيران كانت سنية طوال تسعة قرون قبل أن يدخلها الحكم الصفوي الذي قتل ملايين المسلين في إيران وأجبرهم على التشيع وأعلنها دولة شيعية في عام 1514م، إلا أن التقاء الروح الشيعية المبغضة لعموم السنة مع الروح الفارسية المبغضة للعرب ، صنعت كياناً ذا نزعة استئصالية يهدد استقرار المنطقة.

وقد كان العرب يأملون من الثورة الإسلامية " 1979م"، أن تمثل تحولاً إيجابيا، وأن تكون صدى لكتابات "علي شريعتي" المعتدلة، ولتطلعات "مصدق" التنموية، إلا أن الخميني حشر الثورة والدولة في سرداب الولي الفقيه المبغض لعموم السنة ، الكاره للعرب كجنس المتلفع برداء الإخوة الإسلامية" تقية " ، لكنه يخفي وراءه مشروعاً قروسطي عقيم.

 

إن أزمة الفرس والعرب اليوم تكمن في احتشاد المذهب والثأر التاريخي وجموح الهيمنة في جبهة واحدة للسيطرة على المنطقة من خلال الطائفة وميلشياتها، مستغلة التناحر العربي، وتشجيع غربي لمسته في العراق وسوريا واليمن،

ولو عدنا للماضي فليس هذا أول عدوان فارسي على المنطقة، ففي عدوانها القديم على رسول الله  صلى الله عليه وسلم من خلال إرسال جنود "باذان" للقبض عليه، جاء الرد من عمر الفاروق الذي أنهى دولتهم، وفي العدوان الصفوي، تصدى لهم السلطان سليم العثماني وسيطر على عاصمتهم.

 

لذا فليس أمام المسلمين اليوم إلا إعادة فتح إيران من جديد، لكنه ليس فتحاً بالسيف وإنما من خلال استراتيجيات تتناسب مع الوضع الحالي، إذ ستظل هذه الدولة المتوترة تصدر مشاكلها إلى العالم الإسلامي في ظل تشجيع غربي يطرب لخطة الإرجاف الإيرانية.

وأول خطوات هذا الفتح نقل المعركة إلى الداخل الإيراني ، فالشباب الإيراني اليوم يتطلع لأن تتحول ميزانية الدولة من تمويل الحرس الثوري وهموم المذهب، إلى تمويل التنمية في البلد الذي يقبع 40% من سكانه تحت خط الفقر، بينما قيادته مشغولة بإذكاء الحرائق في الجوار العربي.

 

وعندما وقَّعت إيران معاهدة التخلي عن برنامجها النووي خرج الشباب في طهران مبتهجاً ، لهزيمة عمائم المحافظين، آملا في توجيه الموارد للتنمية بدلاً من مغامرات الولي الفقيه.

الأحواز وبلوشستان وعموم الشباب الإيراني المتطلع إلى التخلص من عمامة الملالي، جدير بأن يقود فتح إيران ، إذا استثمر بشكل جيد، ويعيدها إلى مربع الجار الصالح؛ وقد أجاد الغرب استثمار الحس التحرري في أوكرانيا وشرق أوروبا، وآزر الثورة البرتقالية، حتى أعاد الدب الروسي إلى مجاهل سيبيريا في حقبة سابقة.

 

التطويق التركي الباكستاني العربي كفيل بلجم الطموح الفارسي، لكن النفسية العربية تبحث عن العملاء في تلك الدول لا عن الأصدقاء ، فهي تريد أتباعاً سرعان ما يكشفون ظهرها عند أول منعرج حاسم، وقد بان ذلك في باكستان عندما اعتمد العرب مجموعة نواز شريف وتجاهلوا بقية القوى الإسلامية الأخرى، بينما أستطاع الفرس حبك علاقات مع القاديانيين والعلمانيين والأقلية الشيعية، فكان تأثيرهم  في البرلمان الباكستاني أعمق من العرب.

 

وفي تركيا توجه العرب للتحالف مع الأقلية العلوية المسيطرة على حزب الشعب الجمهوري، ومع فتح الله كولن، نكاية بالعثماني العظيم اردوغان وحزبه العريق، وهي لعمري جهالة ليس بعدها جهالة؛ لولا التدارك السعودي الأخير الذي نرجو أن يتبلور في مشروع استراتيجي لإعادة التوازن إلى المنطقة.

ولن يتسع المقال لشرح الاختراق الإيراني لدويلات العرب وأجهزتها الإعلامية ، والتي بلغت حداً جعلني قبل عاصفة الحزم أترقب سقوط العاصمة الخامسة بيد مليشيا إيران، لولا الالتفاتة السعودية في لحظة حازمة أعادت لنا الأمل.

ومن مقدمات الفتح إعادة مصر إلى المدار العربي بعد أن انعرج بها السيسي الطائش في المدار الصهيوني المتناغم مع المشروع الإيراني في سوريا على الأقل.

 

وللغرب رغبة خفية في إضعاف المشروع الإيراني، بعد أن يضرب به المنطقة العربية، إذ المخطط الاستراتيجي الغربي يرى استخدام إيران لضرب المنطقة، ومن ثم إضعافها، إذ هي خصم عنيد وتشكل قلقا مستقبليا إذا ما التحمت بروسيا والصين، فهذا الثلاثي مزعج للهيمنة الأمريكية، وقد نجح أوباما وفريقه الذكي في استدراج إيران إلى المستنقع العربي، وتفكيك مشروعها النووي، وخلق حالة عداء عميق بينها وبين عموم المسلمين الذين روعتهم وحشية التطهير الطائفي التي قامت به إيران في المنطقة، وستحتاج إيران لعقود طويلة حتى تطبع علاقتها مع العالم الإسلامي الذي ينظر لها كجسم شاذ كما ينظر لإسرائيل، وتلك حماقة الملالي الذين غرهم التشجيع الأمريكي وتجاهلوا حجم الكراهية التي خلقوها لدولتهم في عموم العالم الإسلامي.

 

وللأسف يظن بعض السذج من الفرس أو العرب أن أمريكا تخضع للمنطق العاطفي في علاقتها مع إيران، غير مدركين أن رغبات الهيمنة، ودروس التأريخ المنطوي على صراع خفي بين الفرس والروم، توجه صانع الاستراتيجية الأمريكية إلى أن يضعف الكيان الإيراني ولا أفضل من ضربه بالعرب لإضعاف الخصمين في آن واحد.

 ولقد قرأت إنذاراً مبكراً كتبه أحد الأمريكان نشرته مجلة قضايا دولية في عام 1997م يحذر من خطورة  الصعود الإيراني وتقاربه مع روسيا ، وهذا ما نبه له "بريجنسكي" بقوة في إطار تحليله لحلف البريكس.

صحيح أن الأمريكان ينوون حط رحالهم في شرق آسيا حيث بحر الصين ، إلا أن أمن إسرائيل وملف النفط من القضايا الاستراتيجية التي لا يغفلون عنها بأي حال من الأحوال، ولنا أن نتذكر أن سلاح أسعار النفط الذي وجهته أمريكا للضغط على روسيا وإيران، قد آتى ثماره في رضوخ إيران للاتفاقية النووية، ودفع بروسيا لتقوم بالدور المتوحش في سوريا لتحقيق أهداف أمريكا البعيدة في المنطقة.

 

وهذه الرغبة الغربية تتطلب تسلل ذكي من العرب، لفرض أجندتهم على الواقع، وهجر حالة الارتهان للخيارات الأمريكية المميتة، التي أوصلت الطرفين إلى حافة الهاوية.

وللحركات الإسلامية دور في فتح فارس، وتطويق أذرعتها في المنطقة، إذا ما تعلم العرب من خصمهم الإيراني كيف أستطاع أن يضم لمشروعه كل الفرق الشيعية من النصيرية إلى إلى الزيدية وغيرهما، ويستثمرها لتحقيق الاستراتيجية الإيرانية ؛ بل استثمر الحوار الإسلامي لتحييد الكثير من الحركات السنية إزاء تسلله في المنطقة، حتى وصل به الحال للتنسيق مع تنظيم القاعدة وإيواء بعض رموزه في إيران إبان الحرب الأمريكية على أفغانستان.

 

ما أحوج العرب إلى توبة نصوح تكفر عنهم حربهم الشعواء على الحركات والمجموعات السنية في الحقبة الماضية، وأن يستوعبوا هذه الطاقات في مشروع المواجهة الوجودية مع المشروع الإيراني ، وأن يصموا آذانهم عن الوصايا الأمريكية  المهلكة التي صورت لهم الحركات الإسلامية على أنها الوريث الشرعي لعروشهم، وكان حري بهم أن يتعاملوا معهم كشركاء في معركة واحدة.

بغير فتح إيران من داخلها سيظل العرب في حالة من ردة الفعل تجاه هذه الدولة الملتهبة بأحقاد المذهب وبقايا المجد الفارسي، والهوس الصفوي المقيت، وستظل الشعوب العربية تدفع أثماناً باهظة من استقرارها ودماء أبناءها لتطفئ  النار الفارسية التي لن يطفئها إلا فتح جديد.

*يمن فويس

الحجر الصحفي في زمن الحوثي