الإمام الأسير بـ «الباب العالي»!!

بلال الطيب
الاربعاء ، ١١ نوفمبر ٢٠١٥ الساعة ٠١:٢٠ مساءً
الإمامة الزيدية تاريخ طويل من انتهاز الفُرص، واقتناص اللحظة، وتجدد الأحلام، تفاصيل «تمددها وانكماشها» خلال الـ «1150» عاماً الفائتة تتشابه تتكرر؛ «مات إمام قـُتل إمام ظهر إمامان»؛ و«الهادوية» كمذهب لا تعترض على وجود إمامين في وقت واحد؛ وإن حصل ذلك فالقوي في النهاية يفرض نفسه، ويقضى على منافسه، ويستحوذ على كل شيء، والاستثناء الأبرز لتحقق هذا «التشريع» تجسد خلال الفترة الممتدة من «879هـ» وحتى «1017هـ»، حيث شهدت الخارطة الزيدية وجود دولتان للإمامة، واحدة في «صنعاء» وأخرى في «صعدة».
 
بانتهاء الدولة الرسولية «858هـ» أبتدأ عهد «بني طاهر» ذوي الأصول «الأموية»، كانت الإمامة الزيدية لحظتها منكمشة منشغلة بصراعاتها الداخلية، وفي «صنعاء» كان ثمة دولة زيدية ضعيفة، تعاقب عليها الإمام محمد بن الناصر الذي حكمها لـ «40» سنه، لتؤول الأمور بعد وفاته «908هـ» لـ «المنصور» محمد بن علي الوشلي، تحقق لـ «الطاهريين» في عهد الأخير دخول صنعاء بعد عديد محاولات فاشلة، ليموت في سجونهم بعد سنتين فقط من توليه الإمامة، وفي العام « 912هـ» أعلن من «الظفير» تلميذه يحيى شرف الدين بنفسه إماماً، وتلقب بـ «المتوكل».
 
بالتزامن مع دخول «المماليك» إلى اليمن «922هـ»، قضى الأتراك على دولتهم بمصر والشام، بعد معركة «مرج دابق» الفاصلة، فما كان من قادتهم هنا إلا أن أعلنوا ولائهم للسلطان العثماني «سليم الأول»، وجعلوا الخطبة في اليمن باسمه، تحقق لهم دخول صنعاء بعد قتلهم لـ «الظافر» عامر بن عبدالوهاب، سلطان «بني طاهر» الثالث والأخير على أبوابها، لتنتهي بذلك الدولة «الطاهرية» بعد «63» عاماً من الصراعات والإنجازات المهولة.
 
خرج «المماليك» من صنعاء «924هـ»، وبقت سلطاتهم محصورة في زبيد وما حولها، حارب «المتوكل» يحيى شرف الدين بقاياهم وبقايا «الطاهريين»، ودخلت قواته إب ثم تعز ثم زبيد «941هـ» بقيادة ولده «المطهر»، وامتدت سيطرته حتى جازان وأبي عريش شمالاً، وقد اشتهر «الابن» و«الأب» بقتلهما للأسرى بصورة مُريعة، ويذكر المؤرخون أن «الابن» أقتاد بعد إحدى معاركه مع «الطاهريين» حوالي «1000» أسير صوب صنعاء، وبين أيدي الأسرى «1000» رأس لزملاء لهم أجبرهم «الابن» بفصلها عن أجسادها، ولكي يغيض «الأب» أعداءه «الأمويين» أمر بإلحاقهم بزملائهم؛ بعد أن القى عليهم نظرة التشفي الأخيرة، من شرفة قصره العتيق.
 
في العام «945هـ» قاد سليمان الخادم «والي مصر» حملة عسكرية تركية إلى الهند، عرج على عدن بأوامر من السلطان سليمان القانوني، قتل غدراً عامر بن داوود أحد أمراء «بني طاهر» الذي كان يحاول استعادة دولة أباءه، ثم أكمل مسيره وجعل على عدن أحد رجالاته، فشلت حملته، عاد في العام التالي وأتم سيطرته على معظم الموانئ اليمنية، وفي العام «953هـ» دخل خليفته أُوَيس باشا تعز متجاوزاً التحصينات التي استحدثها المطهر بن شرف الدين على أسوار المدينة، أرفد «أويس» قواته بعسكر محليين، فكانت نهايته على أيديهم.
 
موروثنا الشعبي حافل بالكثير من القصص التي تؤرخ للتواجد التركي الأول في اليمن، ويتداول الناس حكاية مفادها أن القطيعة دبت في ذلك الزمان بين السلطان عامر بن عبدالوهاب، والفقيه الأديب عبدالهادي السودي، وأن الأخير كان يصعد إلى جبل القاهرة ويرمي بحجر أملس تجاه «تركيا» ويقول:
 
كنا مع عامر واليوم على عامر
يا دولة الأتراك ذودي بني عامر
 
ويروى أيضاً أن الأتراك حينما عجزوا عن اقتحام مدينة تعز بسبب التحصينات التي استحدثها «المطهر»، أرسلوا إلى أحد فقهاء الصوفية بـ «الأجيناد» فأعطاهم سلماً، وببركة هذا السلم تم اقتحام المدينة، وهي قصة أقرب إلى الأسطورة، إلا أن عبد الصمد الأوزعي أوردها في كتابه «الإحسان في دخول اليمن في ظل عدالة آل عثمان»، وهو مؤرخ عاش في تلك الفترة.
 
استعر الخلاف بين «المتوكل» يحيى شرف الدين وولده المطهر، فرَّغ «الابن» «أباه» للعبادة، وأصبح الحاكم الفعلي، وتلقب بـ «الناصر»، استغل الأتراك ذلك الخلاف وتوغلوا شمالاً، ليدخلوا صنعاء بقيادة أزدمر باشا «956هـ»، وقع «المطهر» معه معاهدة صلح، وبقي متحصناً بـ «ثلا»، وفي «الظفير» توفى والده «965هـ»، بالتزامن مع تعيين مصطفى باشا المعروف بـ «النشار» والياً لليمن، وبعد سنتين عُين محمود باشا بدلاً عنه، وقد كان الأخير الذي استمرت ولايته لـ «4» سنوات اسوأ الولاة وأكثرهم فساداً.
 
اتسم التواجد التركي في تلك الفترة بعدم الاستقرار، بسبب كثرة الولاة، وخلافات القادة، وتمرد العسكر، الأمر الذي جعل الدولة تبدوا بمظهر الضعف، زالت هيبتها، وزادت التمردات عليها، حاول «الباب العالي» اصلاح الوضع، مقسماً اليمن «974هـ» إلى اقليمين: «تهامة» وعاصمتها زبيد بقيادة مراد باشا، و«المناطق الجبلية» وعاصمتها صنعاء، بقيادة رضوان باشا، أما عدن وتعز فقد كانتا تابعتان للإقليم الأخير.
 
لم يمض وقت طويل حتى استعر الخلاف بين الواليين الجديدين، عُزل «رضوان» فانسحب بجميع قواته، حاول «مراد» السيطرة على التمردات القبلية التي شملت مناطق اليمن الأسفل فخسر حياته، صارت صنعاء سهلة المنال، التهمها «المطهر» وواصل تقدمه جنوباً حتى عدن «975هـ»، لتنحصر سلطة الأتراك في زبيد وما حولها من مناطق تهامة.
 
بالتزامن مع تولي السلطان سليم الثاني الحكم، جهز الأتراك حملة عسكرية كبيرة «977هـ» بقيادة سنان باشا «والي مصر»، والذي استطاع خلال عامين استرداد أغلب المناطق اليمنية حتى صنعاء، وفي عدن تحالف والي «المطهر» الزيدي مع البرتغاليين لصد الأتراك، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل.
 
عمل سنان باشا على إصلاح ما أفسده أسلافه، كسب اليمنيين، وأبرز صورة مشرفة لـ «الخلافة العثمانية»، بُنيت في تلك الفترة المساجد والمدارس والزوايا الصوفية، وجعلت الوقفيات الكثيرة عليها، وصُرفت المعاشات للفقهاء ورجالات العلم، ومن أشهر المعالم التي بناها الأتراك: مقام عبد الهادي السودي بـ «تعز» ، وجامع ابن علوان بـ «يفرس»، وجامع الطيب بـ «جبل صبر»، وقبة الشاذلي بـ «المخا»، وغيرها الكثير.
 
توزعت الانجازات «العثمانية» لتشمل أغلب مناطق «اليمن الأسفل»، وكان اهتمامهم بـ «تعز» أكثر من غيرها، فهي حد وصفهم «بستان الصالحين» ، والموروث الصوفي حافل بالإشادة والتقديس لذلك التواجد، يقول أحد الشعراء:
وما يمن إلا ممالك تبع
وناهيك من ملك قديم ومن فخر
تملكها من آل عثمان إذ مضت 
بنو طاهر أهل الشآمة والذكر
فهل يطمع الزيدي في ملك تبع 
ويأخذه من آل عثمان بالمَكر
 
انتهت بوفاة «الناصر» المطهر «980هـ» إمامة أسرة شرف الدين، ولم يستطيعوا النهوض من جديد رغم عديد محاولات يائسة، تبنى أولاده مقاومة الأتراك، وسيطروا على عدد من الحصون، لطف الله «حصن ذي مرمر»، وغوث الدين «حصن غفار»، وعبدالرحيم «حصن مبين»، أما حصني «ثلا وكحلان» فقد كانا تحت سيطرة علي بن يحيى بن المطهر، والحسن بن شرف الدين.
 
سبق وأن أشرنا أن الإمامة الزيدية في تلك الحقبة كان لها دولتان، وللتعرف أكثر على الدولة الأخرى في «صعدة» سنضطر أن نعود لأكثر من مئة عام للوراء، اسسها «الهادى» علي بن المؤيد بن جبريل «المؤيدي» نهاية القرن الثامن الهجري، إلا أن «المنصور» علي بن صلاح الدين قضى عليها، لتعاود الظهور في عهد حفيده «الهادي» عز الدين المؤيدي «879هـ»، وبعد وفاته «900هـ» خلفه ولده «الناصر» الحسن، ومن بعده ولده مجد الدين «929هـ»، حكم لـ «13» سنة ثم قام «الهادي» أحمد بن عز الدين «958هـ»، وقد كانت سلطات هؤلاء الأئمة الضعاف محدودة جداً، لا تتجاوز «صعدة» وما جاورها.
 
كامتداد لهذه «الدولة» أعلن الحسن بن علي المؤيدي بنفسه إماماً منتصف «رمضان984هـ»، وتلقب بـ «الناصر»، ومن صعدة اتجه جنوباً، دخل في طاعته بعض أولاد الامام شرف الدين، قاومه عبدالله بن المطهر فكان عقابه السجن، سيطر على أغلب الحصون، وأتمها بالسيطرة على بلاد همدان، مما اضطر السلطان مراد الثالث أن يرسل حسن باشا الشخصية التركية الأقوى والياً على اليمن «988هـ».
استطاع الوالي الجديد خلال فترة وجيزة أن يفتتح المناطق الشمالية حتى صعدة، ليقع الحسن المؤيدي اسيراً بين يديه منتصف «رمضان993هـ»، ارسله إلى «الباب العالي» مع أولاد المطهر الأربعة «لطف الله وحفظ الله وغوث الدين وعلى يحيى»، وقد كانت وفاته هناك «1024هـ»، خلفه بعد أسره ولده «المتوكل» عبد الله، كانت دولته كأسلافه محدودة، أما وفاته فقد كانت قبل وفاة أبيه بـ «7» سنوات، بالتزامن مع البدايات الأولى لتأسيس «الدولة القاسمية» .
الحجر الصحفي في زمن الحوثي