الرسوليون ومغامرات صلاح الدين!!

بلال الطيب
الخميس ، ٢٩ اكتوبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٠٠ صباحاً

مستقبلٌ خذلته «التوقعات»، وحاضرٌ أنهكته «التقلبات»، وماضٍ نَهربُ إليه بحثاً عن نافذة عبور تُخرجنا من هذه «التجاذبات»، والتاريخ كما يقول «ابن خلدون» له امتداد للحاضر والمستقبل.

وبين «فكرة الدولة» و«دولة الفكرة» ثمة علاقة طردية من الصعب اختزالها، والتنافس الذي حصل خلال القرنين السابع والثامن الهجري بين «الرسوليين» كـ «دولة» و«الإماميين» كـ «فكرة»، ما هو إلا صورة مُصغرة لصراع لا ولن ينتهي، يتكرر في حاضرنا كـ «عناويين» أما «التفاصيل» فهي مختلفة تماماً.

أسس «المنصور» عمر بن رسول الدولة «الرسولية» في اليمن «628هـ»، كانت الإمامة الزيدية حينها «مُنكمشة»، بفعل الضربات المُوجعة التي تلقتها من «الأيوبيين»، لتعاود الظهور «646هـ» بإعلان «المهدي» أحمد بن الحسين بنفسه إماماً من مدينة «ثلا»، واستيلائه على معظم مناطق اليمن الأعلى، إلا أن السلطان الرسولي الثاني «المظفر» يوسف الذي أتخذ مدينة «تعز» عاصمة لدولته، أخرجه من «صنعاء» وأوقف توسعاته.

في تلك الفترة كان للزيدية إماماً آخر يدعى «المتوكل» أحمد بن عبد الله بن حمزة، وكان في غاية الضعف، استنجد بـ «الرسوليين» لنصرته، من بطش «المهدي» ابن الحسين الذي حارب اسرته وأسر عدد من أقاربه، وبدعم «رسولي» استطاع أن يقضي على إمامته ويقتله منتصف العام «656هـ»، وهي السنة ذاتها التي قتل بها «المنصور» بدر الدين محمد وكان إماماً على صعدة وما حولها، أما «المتوكل» أحمد فهو الآخر لم يتأخر كثيراً وكانت نهايته مع نهاية ذلك العام.

خلت اليمن لـ «المظفر» يوسف، وتمكن من توحيدها للمرة الرابعة في تاريخها، وامتدت دولته من شرقي ظفار حتى المدينة المنورة، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أعلن «المهدي» إبراهيم بن تاج الدين نفسه إماماً، ولم تدم دولته سوى ثلاث سنوات، وكانت نهايته اسيراً في قلعة القاهرة بتعز، ليتوفى في دهاليزها «684هـ»، وهي السنة ذاتها التي توفي بها أبو محمد الحسن وهاس، الذي دعا لنفسه بالإمامة بعد مقتل «ابن الحسين»، إلا أن أنصاره كانوا قلة، واستطاع «المظفر» أن يخمد إمامته في مهدها.

تعاقب على الإمامة الزيدية بعد ذلك عدد من الأئمة الضعاف، الذين لم يتجاوز سلطانهم مناطق محدودة، كـ «المتوكل» المطهر بن يحيى بن مرتضى «المظلل بالغمامة»، الذي كان متحالفاً مع «الرسوليين» وحاكماً باسمهم «686ـ 697هـ»، ومن بعده ولده «المهدى» محمد، الذي أعلن تمرده وأغار على بعض المناطق، ثم عاد منهزماً ليتحصن بـ «جبل رهقة»، وبعد وفاته «728هـ» آلت الأمور لولده «الواثق» المطهر، الذي حكم بالتزامن مع «المؤيد» يحيى بن حمزة «الحسيني» ولم تطل مدة بقائهما، أعتزل الأخير، وتنازل الأول لـ «المهدي» علي بن صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين، الذي حكم لـ «19» سنة.

كان عهد السلطان الرسولي الخامس «الأفضل» عباس الذي تولى الحكم «764هـ» مليئاً بالتمردات، وكان أقساها تمرد ثلاثة من اخوته عليه، سبق وأن اعلنوا عصيانهم على والدهم «المجاهد» علي بن «المؤيد» داؤود، ليتمرد بعدهم بعض المشايخ ورجالات الدولة، استغلت الإمامة الزيدية ذلك، وعادت لتُكشر عن أنيابها من جَديد.

تولى «الناصر» صلاح الدين بن علي الإمامة بعد مقتل أبيه «774هـ»، وقد كان بشهادة كثير من المؤرخين مغامراً متهوراً لا يكل ولا يمل من مقارعة خصومه، وقد استطاع أن يوحد القبائل المتعطشة للسلب والنهب، ويأمن جانبها بتوجيهها صوب اليمن الأسفل وتهامة؛ متجاوزاً الـ «مربع الزيدي» في سابقة خطيرة لم يفعلها أسلافه، ساعده في ذلك ضعف الدولة «الرسولية» وكثرة الخونة والمتربصين.

كان أبرز من تمرد على الدولة «الرسولية» من أعيان اليمن الأسفل الشيخ أبي بكر السِّيري، استقل بـ «بعدان» لنفسه، فعمل السلطان «الأفضل» على قتله «774هـ»، ليستنجد ولده محمد بالإمام الجديد، الذي لبى الدعوة وجهز جيشا عظيماً قاده بنفسه، التقى الجمعان في إب، وتقدما في وقت واحد صوب تعز، وفي الجند خيما لثلاثة أيام، وحين أدرك «الناصر» أن «الأفضل» قد أعد العدة لملاقاتهم، انسحب من طريق آخر، تاركاً من استنجد به لمصيره، عاد الأخير إلى «بعدان» منكسر القوة والخاطر.

كانت تهامة بنظر «الناصر» الجهة الأضعف، ودولته الوليدة بحاجة ماسة إلى منفذ بحري، توجه إليها منتصف العام «777هـ» دون أن يعترض طريقه أحد، استباح عساكره ممتلكات المواطنيين، وخربوا دورهم ومزارعهم، ونهبوا كل شيء وجدوه أمامهم، استعد والي زبيد للمواجهة، واستنجد بمشايخ المناطق المجاورة، الذين أمدوه بالرجال والسلاح، وحين رأى «الناصر» تلك الحشود راعه المشهد، فخف حماسه وحماس من قَدموا معه.

ينقل لنا المؤرخ الخزرجي في «عقوده اللؤلوؤية» جانباً من ذلك: حصل قتال بين عسكر «الناصر» وأهل المدينة، فبينما الناس يقتلون إذ خرج رجل من زبيد عظيم الخلقة، طويل القامة، على فرس كأعظم ما يكون من الجمال، وعلى الفرس والفارس ثياب كلها خضر، وحوله من الناس جمع كثيف، فلما خرج في جمعه ذلك ورآه العسكر انهزموا بين يديه، فتبعهم فتوجهوا «شمالاً» ولم يلتفت منهم أحد، فكان آخر العهد بهم.
ويقول مؤرخ آخر أن ريحاً عاتية هبت على «الناصر» وجنوده أثناء طريق عودتهم، وقتلت منهم نحو «1300» رجل.

في العام التالي «878هـ» توفى السلطان «الأفضل» وخلفه ولده «الأشرف الثاني» اسماعيل الذي ورث تلك الأوضاع المضطربة، وبعد خمس سنوات تم الصلح بينه وبين «الناصر»، إلا أنه لم يدم سوى خمسة اشهر فقط، نقضه الأخير وعاد لغاراته وحروبه العبثية، توجه صوب تهامة للمرة الثانية وعاد خائباً، ثم توجه صوب «جبلة» خربها ونهبها وعاد أدراجه أيضاً خائباً.

حتى عدن ثغر اليمن الباسم لم تسلم من مغامراته وطيشه، توجه إليها أواخر العام «789هـ»، حاصرها لمدة «12» يوماً، ولما دنت عساكره من بابها تقدم أحد قادته وكان مشهوراً باقتحام الحصون، رُمي بصخرة كبيرة فَخر صريعاً، ورجع «الناصر» وعسكره خائبين منهزمين.

قُدر لتهامة أن تدفع ثمن ذلك الجنون أكثر من غيرها، سكانها بسطاء، وتضاريسها سهلة، وتحصيناتها هشة؛ أسباب اجتمعت وجعلت «الناصر» يشحذ الهمم للسيطرة عليها أكثر من مرة، تحرك إليها مع مطلع العام «791هـ» بجيش كبير، هو الأكثر عدداً وعدة، وفي طريقة انضمت إليه عدد من القبائل المتمردة، قويت شوكته، وزادت عزيمته، اقتحم «حرض» ثم «المحالب» ثم «المجهم»، ومارس في كل منطقة سلوكه المحبب في التدمير والنهب، الأمر الذي أثار الرعب في سكان تهامة واليمن الأسفل قاطبة، وكثرت الأراجيف، وظن الجميع زوال دولة «بني رسول» وإلى الأبد.

كان السلطان الرسولي «الأشرف» حينها في زبيد، استقبل ولاته وعساكرهم الهاربين؛ واستعد لمعركة الدفاع عن عاصمة دولته الثانية جيداً، وعلى الفور استدعى الإمدادات، وأمر بزيادة التحصينات، وحفر الخنادق، وحصلت مناوشات محدودة في أطراف زبيد، كبدت الغزاة الكثير من الأرواح، قدرها «الخزرجي» بـ «50» فرداً، ظن الجميع أن «الناصر» ولى منهزماً، غير مدركين أن الحرب خدعة، وأن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، حتى السلطان «الأشرف» نفسه خُدع وعاد إلى تعز، ومعه حشد كبير من عساكره وحاشيته.

بعد أقل من شهر كانت زبيد على موعد مع الجحيم، استجمع «الناصر» «نيرون» ذلك العصر قبحه، وتوجه إليها موزعاً عساكره على أبوابها الأربعة، وابتدأ «النشابة» بصب سهامهم على نوبات الحراسة، لتقتحم المدينة من الباب الغربي الأقل تحصيناً، هرب العسكر السلطاني وكانوا قلة؛ وتركوا زبيد ومواطنيها لقدرهم المحتوم، غادر السكان منازلهم على وقع عويل النساء وصراخ الأطفال، فيما بقي الرجال للدفاع والمقاومة، وقد استطاعوا أن يخرجوا الغزاة إلى خارج أسوار المدينة، الأمر الذي أغضب «الناصر» واشعل نار الحقد في جوارحه، ولكي يطفى ذلك، أمر بإحراق القرى المجاورة، فاشتعلت النيران واخذتها الرياح حتى زبيد، فأحرقت المدينة، وطمست كثير من معالمها الجميلة.

ابتدأ الجنود الرسوليون يتوافدون بقيادة الأمير بهاء الدين الشمسي لإنقاذ زبيد وتحرير تهامة، ودارت مواجهات متقطعة، خسر فيها «الناصر» حوالي «80» شخصاً أحدهم صهره، وحين أدرك ألا طاقة له بمواجهة «حرّ وحرب» تهامة؛ عاد أدراجه من نفس الطريق التي أتى منها، دون أن يعود إليه صوابه.

بعد ثلاثة أشهر من تلك الواقعة تم الصلح بين السلطان «الأشرف» ومحمد السِّيري، واتحدا الاثنان لإعادة المناطق المتمردة لكنف الدولة الرسولية، الأمر الذي أغضب «الناصر» فحشد الحشود واقتحم بهم «جبلة»، استعد السلطان «الأشرف» للمواجهة، وطلب من أهل البلاد مساعدته، ولولا وصول المدد في الوقت المناسب لمني بهزيمة نكراء، بسبب موالاة بعض القبائل التي أعتمد عليها لـ «الناصر»، انسحب الأخير إلى ذمار وارسل في نفس اليوم حملة عسكرية إلى تهامة؛ وكان الموت مصير قائدها وأغلب افرادها، وفي العام التالي توجه «الناصر» صوب «جبلة» للمرة الثالثة، وعاد منهزماً دون أن يحقق مراده.

مع بداية العام «793هـ» توجه «الناصر» إلى «بعدان» بلاد محمد السَّيري الذي استنصره بالأمس، ومارس فيها جنونه من قتل ونهب وتخريب، فجادت السماء بغيثها، وتجمعت المياه على الطرقات، وجعلتها أكثر وعورة، الأمر الذي سهل لأبناء البلد أن يصدوا توغل تلك القوات، ويقتلوا الكثير، توجه «الناصر» بعد ذلك إلى «الشعر» وهناك اخرج غله وحقده على سكان تلك المنطقة، وحين لم يظفر بها عاد أدراجه خائباً كعادته.

الطغاة من أمثال «الناصر» لا يستسلمون إلا لحتفهم، تأخذهم العزة بالإثم حتى النهاية، ولا وجود لـ «التوبة» في قاموسهم، وقد كانت الوجهة الأخرى والأخيرة لهذا الطاغية «بني شاور»، حيث الفقيه الشافعي شهاب الدين أحمد بن زيد الشاوري، وكان مناوئا للائمة كثير الانتقاد لمذهبهم، وصنف مختصرا في ذلك، هاجمه «الناصر» فقتله هو وابنه واخوته وطائفة من فقهاء مذهبه، وخرب ونهب بلده، وكان فيها أموال كثيرة مودعة عنده لثقة الناس به، وقد رثاه إسماعيل المقري بقصيدة قال فيها
أراني الله رأسك يا صلاح
تداوله الأسنة والرماح
فلا تفرح لسفك دم ابن زيد 
فما يرجى لقاتله صلاح
كما قام أحد محبي «الفقيه» برثائه بقصيدة أخرى مطلعها:
ألا شَلَّتْ يمينك يا صلاح 
وعجل يومك القدر المتاح
استجاب القدر، وتحققت عدالة السماء، ولم يكد «الناصر» صلاح يُتم رحلة عودته، حتى سقطت به «بغلته»، وافتك «وركه»، وانكسر «كعبه»، ودخل به إلى ذمار محمولاً، وكانت بعد ذلك ببضعة أشهر «نهايته».

خلف «الناصر» صلاح ولده «المنصور» علي «793هـ»، وقد بويع في اليوم نفسه لـ «المهدي» أحمد بن يحيى «جد أسرة شرف الدين»، فنشبت فتنة انتهت بأسر الأخير وحبسه لـ «7» سنوات، وفي «خولان بني عامر» أعلن «الهادى» علي بن المؤيد بن جبريل «المؤيدي» بنفسه إماماً، مؤسساً بذلك دولة زيدية مستقلة في صعدة، وكانت علاقة «المنصور» مع «الرسوليين» طول فترة حكمه التي تجاوزت الـ «46» عاما هادئة ومستقرة، عكس أبيه تماماً.

وفي العام «840هـ» حل وباء «الطاعون» وفتك بخلق كثير، ومات بسببه «المهدي» أحمد و«المنصور» علي، وولده «الناصر» صلاح الذي حكم لـ «28» يوماً فقط، فأجمع من في صنعاء على اختيار «المهدي» صلاح بن على من نفس الأسرة، وفي ذمار أعلن «المتوكل» المطهر بن محمد بنفسه إماماً، فعارض كليهما «المنصور» الناصر بن محمد، حبس «المتوكل» وأضعف «المهدي»، وملك «ذمار وصنعاء ثم صعدة»، وبعد أن ضعف أمره ظفر به «المتوكل» سجينه بالأمس، فسجنه حتى مات بسجنه، أما «المتوكل» فقد استمر بالإمامة تارة يقوى وتارة يضعف إلى أن مات.

رب ضارة نافعة، ولولا وفاة «الناصر»، وعودة الصراع والتنافس «الزيدي الزيدي»، ما استعادت الدولة «الرسولية» عافيتها، وما عاش رعاياها في خير ودعة حتى نهايتها «858هـ»، على يد انسابهم «الطاهريين»، وكأنه قدر سكان اليمن الأسفل ألا يرتاحوا وينعموا بالأمن والأمان، إلا إذا اختلف هؤلاء «المُتهبشين».

«الطاهريون» ومن بعدهم «الأتراك» ومن بعدهم «الجمهوريون» أتو امتداداً لـ «الدولة» التي تتجدد وإن تغيرت مسمياتها، أما «الفكرة» فتمضي قدماً دون تجديد؛ وإن تغيرت مسمياتها وتعددت أسماء القائمين عليها، وما دامت بنظر معتنقيها عقيدة وجزء من الدين، فمن الصعب اجتثاثها، «تنكمش» إذا ما وجدت «دولة» وحاكم قوي يصدها، و«تتمدد» إذا حصل العكس، ومن هذا المنطلق فإن التنافس والصراع بين «فكرة الدولة» و«دولة الفكرة» سيظل حتى قيام الساعة.

 

الحجر الصحفي في زمن الحوثي