المشروع الإيراني والرواية المتواترة لانهيار المشاريع العربية ( 2 )

د. عبدالله صلاح
السبت ، ١٨ اكتوبر ٢٠١٤ الساعة ٠٧:١٢ مساءً

المشروع الإيراني والرواية المتواترة لانهيار المشاريع العربية

(2) مشروع (الإخوان المسلمون)

الفشل الذريع في إدارة التحديات

بدأ هذا المشروع في الثلث الأول من القرن العشرين (1928م) كحركة أسسها الشيخ حسن البنا، بهدف إقامة دولة الخلافة الإسلامية. وقد مر المشروع بمراحل مضطربة، وتعرض لضربات متتالية، إذ كانت مرحلة السيد قطب من أخطر مراحله الأولى؛ لجنوحه إلى العنف والتصادم مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر. والتي انتهت بإيداع قادة التنظيم في السجون، وملاحقة أعضائه وأنصاره، وهو ما دفع بالتنظيم إلى العمل السري، حيث كان كتاب "معالم على الطريق" للسيد قطب، بمثابة المؤسس والمرجعية لهذا العمل. الأمر الذي أدى إلى نشوء العقيدةالجهادية والتكفيرية، بدءاً برفع شعار (الحاكمية لله) في وجه النظام الناصري.

وتعد حركة (الإخوان المسلمون) أكثر المشاريع الإسلامية تنظيماً وإدراكاً للعمل السياسي؛ لما تمتلكه من مؤسسات وجمعيات ووسائل إعلام مختلفة، وكذا لما عانته من نكبات، وخاضته من أنشطة وتجارب سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية متعددة، على مدى عقود من الزمن. وبالتالي، فإن الحديث عن هذا التنظيم أو المشروع، ليس أمراً سهلاً، لما يحيط به من غموض وإشكاليات متعددة، ولما يشوب المواقف والآراء تجاهه من التباس وتعدد.

لقد ارتبط تنظيم الإخوان في وجوده بالخطاب الديني، وبلغة الشعارات المفتوحة والعائمة، أكثر من ارتباطه بالواقع، الذي يفرض عليه ضرورة وضع البرامج السياسية، والحلول المجتمعية والاقتصادية بناء على القراءة الموضوعية للواقع وأحداثه وتحولاته. وعلى الرغم من تغلبه على المحن التي صادفته في أحايين كثيرة، ومعاودته للنشاط بوتيرة عالية بفضل انهيار المشروع القومي، وعدم جدواه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. خاصة بعد هزيمة (1967م)، واستغلاله حالة الغضب واليأس بين أوساط المجتمع، والدفع بالصحوة الدينية التي أعقبت الهزيمة، عن طريق مضاعفة حركته وأنشطته الاجتماعية والدينية. ولاسيما في فترة تحالفه مع الرئيس السادات، الذي تسامح كثيراً مع الممارسات والفعاليات المتعددة، التي توسلت الدين وخطابه كسلطة نافذة، لها جدوى في تحشيد الناس وتغيير قناعاتهم. وكان أكثر ما يشغلهم في هذا الخطاب التركيز على هوية الدولة والمجتمع، حيث اتخذوا مقولة "الإسلام هو الحل" شعاراً لهم.

ويركز هذا التنظيم كثيراً على الشباب، محاولاً استثمار طاقاتهم والتوغل في أوساطهم في سبيل إحياء قيم الإسلام المنهارة، والتأكيد على مسألة علاقة الإنسان بالله. وقد ساعدهم على التوغل فعلاً فشل المشروع القومي، الذي اكتفى في صراعاته بالتنظير للأشياء فقط، وكذا عجز نخبه الثقافية والسياسية عن التأثير في المجتمع. بالإضافة إلى عجزه عن إدارة الأزمات الداخلية في ظل حكمه، كقضايا الاقتصاد والتنمية. وكذا عجزه عن إدارة التحديات الخارجية، وفشله في مواجهة الاحتلال في فلسطين، والهيمنة الاستعمارية. الأمر الذي جعل كثيراً من الناس يتعلقون بشعارات مشروع (الإخوان المسلمون)، على أمل التغيير وتحقيق النهضة المنشودة للأمة. خاصة وأن طبيعة هذا المشروع واعتماده على مستوى من التخطيط والنظام، كالتربية الروحية، والالتزام الصارم في أثناء التنشئة والتوجيه، وتركيزه على شريحتي الشباب والمثقفين، مما أضفى على المشروع حالة من الحيوية والنشاط، ظلت مستمرة، سواء في العلن أو في السر، حتى في أحلك الظروف.

صحيح أن اعتماد التنظيم في نشاطه على العمل الدعوي والخيري في المجتمع بدرجة أساس، قد ساعده على رصد بعض القضايا المجتمعية، ومحاولة البحث عن حلول لها، إلا أن عدم مشاركته في الحكم أبقى تلك الحلول في سياق نظري، شأنها شأن خطابه السياسي الذي ظل هشاً وباهتاً في واقع الحياة العملية. كما تجلى واضحاً في أثناء أحداث الربيع العربي، التي  منحته مفاتيح الحكم، والانفراد في إدارة الحياة السياسية في أكثر من بلد عربي لفترة قصيرة جداً.

ويؤكد كثيرٌ من الباحثين المهتمين بتيارات الإسلام السياسي على أن هذا التنظيم أقل اختراقاً من قبل قوى الاستعمار من التيار السلفي الجهادي، الذي تستغله في سياق صراعاتها السياسية الإقليمية والدولية. ولعله من أسباب تماسك التنظيم، وجعله أكثر تيارات الإسلام السياسي حضوراً ونفوذا في المجتمع. بل وأكثرها بعداً عن ممارسة العنف والمواجهة. وقد استطاع في فترات زمنية معينة المزاحمة في عالم السياسة، والوصول إلى المراكز العليا للقرار السياسي، وإن لم تدم تلك الفترات طويلاً.

إن أخطر إشكالية واجهت هذا التنظيم أو المشروع، هي إشكالية خلط السياسة بالدين. إذ أصبحت عائقاً فعلياً أمام تحركاته، وسبباً من أسباب التشكيك في نواياه، لاسيما في ظل وجود تناقضات كثيرة في مواقفه وقناعاته، يعجز أحياناً عن تبريرها؛ لعدم قدرته أو جرأته على فصل السياسة عن الدين. فلا هو بالتيار الدعوي الديني المحض، فيلتزم بشرائع الدين وأحكامه الإلهية بصرامة، ولا هو بالتيار السياسي فيلتزم بمقتضيات السياسة وأحكامها البشرية. وهو ما صنع حالة من التوجس الرهيب من التنظيم ونواياه.

المهم، إن ضعف الأداء السياسي في مرحلة التنظيم الأخيرة أثبتت فشله في تقديم أية تجربة فذة في الحكم السياسي، وعجزه عن إنتاج أية رؤية سياسية متماسكة قابلة للحياة طويلاً . وبالتالي ليس له مستقبلٌ على مستوى الحكم وبلوغ السلطة، في حال بقاء فكرة هذا المشروع خارج دائرة المراجعة النقدية، والاستفادة من الأخطاء، والاعتناء أكثر بالشأن السياسي. صحيح أن قضايا طارئة في البداية كالاستعمار والانحراف الفكري والثقافي ساقته، أو بالأصح ساعدته على الانتقال خطوة من الشرعية الدينية والمجتمعية إلى الشرعية السياسية. إلا أن فشله سياسياً من خلال تصلبه في المواقف، وإقصائه للآخر، وافتقاره إلى المرونة في الخطاب السياسي، وصعوبة استيعابه للمتغيرات في الحياة السياسية، أدى إلى تضاؤل شرعيته السياسية والدينية معاً.  

وهكذا نستطيع القول: أن مشروع الإخوان المسلمين قد مر بفترات عصبية، ونكسات كثيرة، لم تتح له فرصة الحكم لفترة طويلة، أو فرصة الإسهام في النهوض بالأمة. ولعل نكسته الأخيرة في مركز ولادته وثقله -في مصر خلال 2013م- تعد أسوأ وأخطر انتكاسة في عمر المشروع الطويل. ومن المؤكد أن هذه الانتكاسة سيكون لها تأثيرات كبيرة على تماسك المشروع في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية التي يتواجد فيها. وهو ما يعني ضرورة حدوث مراجعات نقدية لأدبيات المشروع وأفكاره ووسائله، وهناك بعض المفكرين المحسوبين على المشروع يحظون باحترام، ويمارسون النقد باستمرار، لكنه في الغالب يظل حبيس التنظير والمزايدة الإعلامية فقط. ويأتي في طليعة هؤلاء المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي بفضل مراجعاته حافظ على بقاء حزبه في هرم السلطة التونسية. وكثيراً ما دعا إلى مناقشة التحديات التي تواجه المشروع الإسلامي من الداخل، كما أنه لا يتردد من النقد الصريح لما يراه سالباً ويؤثر في مسيرة المشروع، كانتقاده لخوض المشروع في العموميات، وعدم جرأته في الدخول إلى التفاصيل، وخاصة العلاقة مع الآخر، والعلاقات الدولية. وكذا انتقاده لموقع المرأة في المشروع.

خلاصة هذا المشروع، أو بالأصح التنظيم في أمس الحاجة للمراجعات النقدية، فهو -بالإضافة إلى فشلة المتكرر في إدارة أزماته وصراعاته- يتعرض لمؤامرات محكمة الإعداد والتنفيذ توقعه في شراكها دائماً، خاصة وأنها تحاك من قبل بعض الأنظمة العربية والأجنبية التي تستشعر خطورة هذا المشروع، وتخشى سرعة تمدده وانتشاره في شعوبها، أو تعتقد في تهديده لمصالحها.  وبالتالي، فإن واقع هذا التنظيم اليوم في حالة لا تسمح له بالتنفس في كثير من البلدان العربية، كدول الخليج العربي، ومصر. بينما لا يستطيع تجاوز حدود الإقامة الجبرية في الأردن واليمن، أما في ليبيا وسوريا والعراق فهو في حالات حرب تكاد تقضي عليه نهائياً. وهو ما يعني أنه يعيش حالة انهيار كبيرة لن تمكنه في الأمد المنظور من تسيد المشهد السياسي أو المنافسة عليه في الوطن العربي.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي