هي القبيلة الملعونة

د. عبدالله صلاح
الخميس ، ٠٢ اكتوبر ٢٠١٤ الساعة ٠٥:٥١ صباحاً
 
يروي الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في مذكراته قصة وفاة إمام اليمن المنصور عام (1904م). إذ تقدم علماء منافسون لخلافته، بحجة أن ابنه يحيى يفتقد أحد الشروط المنصوص عليها في المذهب الزيدي، لتولي الإمامة. ولكن الشيخ ناصر بن مبخوت، جد الشيخ عبد الله، نهض رافعاً عصاه أو صميله قائلاً: وهذا يسد الشرط الناقص. فبويع الإمام يحيي لولاية اليمن، بقوة الشيخ وصميله (قبيلته حاشد) .
 
وبما أن الشيخ ناصر أحسن الفعل، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فقد منحه الإمام يحيى خراج حاشد وعمران لسنوات، ولكن بعد أن تمكن الإمام من بسط نفوذه، وتوطيد أركان مملكته، طلب من الشيخ ناصر أن يكف يده عن الخراج. فغضب الشيخ وقامت قيامته، وألب القبائل ضد الإمام وفتح جبهة حرب ضلت سنوات، منازعاً الإمام في ملكه. بدلالة ترديد هذا الزامل وتكرار تداوله: (سلام يا حاشد يبلغ كل جيد ... من بعد هذا تسمعون أخبارها/ إمامنا الناصر ومن بعد حميد ... سبحان من رد العوايد لأهلها).
 
المهم، إن هذا الصراع انتهى إلى طلاق بيني بين شيخ قبيلة حاشد وبين الإمام يحيى وولي عهده، ليظل الشيخ تحت عيون الإمام بعد هزيمته. وما إن أتيحت له الفرصة بقيام الثورة حتى صار من أنصارها، وكان له دور كبير في ترجيح النصر لصالح الجمهورية، لأن معظم قبيلة حاشد كانت في جيش الدفاع عن الثورة مع من كان يشارك من القبائل الأخرى. وهكذا استطاعت قبيلة حاشد وغيرها من القبائل أن تغير موازين القوى في اللحظات الحاسمة من الصراعات في تاريخ اليمن الحديث. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور قبائل البيضاء أيضاً في إرساء النظام الجمهوري.
 
إن الإشكالية تكمن في أن القبيلة لا تلتفت في أثناء التحولات التاريخية، واستعار الأحداث المصيرية إلى مصلحة الوطن العليا، وإنما تنظر فقط إلى مصالحها المختزلة في ذات الشيخ ومصالحه الأنانية. وبالتالي فإن القبيلة مرتبطة بهوى الشيخ وخاضعة لإرادته ليس إلا. وهذا ما دونه المؤرخون، ونشاهده اليوم بوضوح، فعلى سبيل المثال نجد في أحداث ثورة سبتمبر أن بعضاً من القبائل اليمنية كانت تصبح جمهورية وتمسي ملكية وبعضها الآخر العكس، إتباعاً لرغبة الشيخ ونهمه المادي. وهو ما أدى إلى امتداد المأساة واستمرار نزيف الدم اليمني سبع سنوات. 
 
وإذا علمنا أن  القبائل التي أشعلت ساحة التغيير عام (2011م) بالتأييد وبالزوامل الشعبية، هي القبائل نفسها التي تمد الخيام التي تحاصر صنعاء اليوم بالقوافل الغذائية، وبالزوامل أيضاً.  ليس هذا افتراء ولا كذباً، وإنما هو واقع نعيشه، وأقسم أني أعرف شيخاً قبلياً كبيراً، انظم بعد قيام الوحدة في صف الحزب الاشتراكي، وما إن انهزم الحزب عام 94 حتى سارع إلى إعلان ولائه لعلي محسن، وظل ذراعه اليمين في المنطقة، ونال ما ناله من الغنائم والأراضي، وظل هكذا إلى أن سقط محسن قبل أيام. وها هو اليوم يعد قافلة لساحات الشرف والثورة والمجد والعزة والكرامة كما يحلو له القول.
 
إنها القبيلة الأكثر نفوذاً في اليمن، والتي استطاعت أن تحافظ على كيانها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على نحو مستقل، فلكل قبيلة على مر التاريخ كيانها الخاص المتجسد في عاداتها وأعرافها وأسلحتها ومراكز نفوذها. وهو ما يؤمن به أي حاكم سياسي في اليمن، فإذا لم يؤمن به أو حاول أن يتجاوزه، كانت نهايته معلومة كنهاية الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، الذي كانت جريرته تحرير الدولة من نفوذ عدد من الأقطاب القبلية. 
 
ولذلك لا غرابة أن تحرص الأنظمة السياسية المتعاقبة على كسب ولاء القبيلة، وعدم تجاهلها أو التقليل من شأنها. وما رصد باب من أبواب موازنة الدولة بالمليارات، تحت مسمى "شئون القبائل" إلا إدراك حقيقي لضرورة إلجام القبيلة، قبل أن تفلت عن عقالها. فما تمتلكه من إمكانيات بشرية ومادية وحربية قادرة على تهديد أمن الدولة، وإثارة الفوضى واللا استقرار.
 
بل إن النظر إلى رموز الدولة وقادتها السياسيين يكشف حقيقة تسلط القبيلة على مراكز القرار، فرئيس مجلس النواب ونوابه، وأغلبية أعضائه هم مشايخ قبائل، وكذا غالبية أعضاء مجلس الشورى هم مشايخ قبائل أيضا. ناهيك عن كبار القادة العسكريين. ولعل هذا من أهم الأسباب التي أدت إلى (قَبيَلَة المدن) بدلاً من (تمدين القبائل). فصنعاء العاصمة السياسية لليمن لا شيء فيها يدل على أنها عاصمة مدنية، وما هي إلا مركز نفوذ قبلي، تتبارى فيها القبائل بمشايخها ومسلحيها وعادتها وزواملها. 
 
وبناء عليه، فإن القبيلة الملعونة هي أكبر هموم اليمن، وأس أزماته وصراعاته؛ لجهلها وتخلفها وعدم إيمانها بالوطن كهوية جامعة. وللأسف الشديد أن العقلية القبيلة ما تزال كما هي، فقد كشفت الأحداث الأخيرة، تساقط هذه القبائل أمام المشاريع الجديدة لضمان بقائها في الواجهة السياسية. بل إن مشروع الدولة الجديد، الذي يتشكل الآن له سنوات طويلة يشتغل على تنشئة زعامات قبلية جديدة موالية له، حتى تضمن له التمدد في كل المحافظات والتوغل في بنية كل قبيلة يمنية. بعد أن ضمنت ابتلاع أو إخضاع أهم قبيلة في اليمن، وهي قبيلة حاشد مصدر تثبيت أو زعزعة أي حكم سياسي في اليمن.
 
وهكذا تظل القبيلة اليمنية مصدر شقاء الإنسان اليمني، بسبب عجز الأنظمة السياسية المتعاقبة عن تنميتها وتطويرها، وإشراكها في بناء البلاد على أسس علمية وحديثة، وإبعادها عن الثارات والعصبيات والعنف الاجتماعي والسياسي. حتى يصبح دور القبيلة إيجابياً، ويساهم في استقرار اليمن.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي