على هامش الثقافة والإبداع (2) نقدُ الناقد

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ١٤ سبتمبر ٢٠١٤ الساعة ١٢:٠٤ مساءً
 
ربما يصعب تعريف الناقد دون بيان مفهوم العلم الذي اشتق منه، وهو علم النقد، فالناقد تختلف أو تتحول رؤاه ومفاهيمه وأدواته، باختلاف أو تحول مفاهيم هذا العلم ونظرياته وقوانينه وآلياته المتعددة. ورؤى النقد في القديم ومفاهيمه غير رؤى النقد في الحديث ومفاهيمه. وكذلك رؤية الناقد وإمكاناته في النقد القديم تختلف عن رؤية الناقد وإمكاناته في النقد الحديث. 
 
وبغض النظر عن تتعد أشكال التعريف، فإنه يمكننا القول أن الناقد هو بمثابة الحاكم العدل، الذي يميز بين الحق والباطل، بينما هو يميز بين الجمال والقبح وبين الأصيل والزائف. أي إن الناقد هو الحاكم الخبير الذي يكشف مضامين النص الأدبي الفكرية والشعورية والفنية والجمالية، بناءً على ثقافة واسعة في اللغة والبلاغة، واتجاهات النقد القديمة والحديثة. بحيث تمكنه تلك الثقافة من معرفة دوال النص، ومدلولاتها وأساليب استعمالها، أيا كانت حقيقية أم مجازية. 
 
وبناء عليه، فإن الناقد لا بد أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط حتى يستحق هذه الرتبة أو الوظيفة، وهي في الأساس شروط علمية وذاتية تتحدد أكثر في النقد الحديث. من أهمها سلامة ذائقته الأدبية، إذ يصعب عليه التفاعل مع النص أو التجاوب مع آثاره، ما لم يمتلك الناقد الموهبة النقدية التي يكون أول لبناتها رهافة الحس أو الذوق ودقته، الذي من خلاله يتحسس صور النص وجمالياته، ويتلمس مواطن تجلياته وعثراته. بالإضافة إلى ضرورة توافر مبدأ التخصص العلمي؛ لأن النقد أصبح علماً قائماً بذاته، له أصوله وطرقه وقوانينه واتجاهاته الخاصة به. والتخصص يعني الإلمام بثقافة علم النقد الواسعة والمتنوعة، والتي بها يستطيع قراءة النص وتحليله وسبر أغواره. 
 
ومعظم النقاد الذي يكتبون في الصحف لا رابط لهم بهذا العلم، من حيث الإلمام بميادين الأدب المختلفة وفنونه وألوانه المختلفة.  وكذلك الإلمام بالثقافة البلاغية واللغوية، فالنقد في أساسه ما هو إلا لغة، يعد الإخلال بها أو الخروج عن قواعدها وأساليبها فساداً للنص الإبداعي. ولذلك ما يكتبونه تحت يافطة النقد لا يثمر مطلقاً كونه مختل الرؤية والأداة، ولا يأتي من ذهن خال من التعصب والمداهنة.  
أما ما يتصل بالنقاد المتخصصين، فعلاقتهم بالاتجاهات النقدية الحديثة متباينة، فثمة من يرى أن هذه الاتجاهات لا تصلح في واقعنا العربي، بسبب الفجوة الواسعة بينه وبين الواقع الغربي المنتج لها، سواء على المستوى المادي أم العلمي أم الثقافي. بينما تيار آخر يرفض وضع حدود وفواصل، وأن المعرفة والمناهج والنظريات الفكرية والنقدية والنفسية قابلة للتعدد والانتقال من مجتمع إلى أخر، وأنها ليست حكراً على ثقافة أو مجتمع؛ كونها نتاجاً حضارياً. والنتاج الحضاري ليس نتاج هوية معينة أو عقيدة أو فكرة مطلقاً. والمسألة ليست بالقبول أو الرفض، وإنما بمدى توافر الرغبة والإرادة لفهم تلك النظريات واستيعابها وتطبيقها وتطويرها، دون الانبهار الشديد بها أو التقليل من قدرها وإماتة فاعليتها.  
إن أسوأ ما في نقادنا الكبار اليوم أنهم يغالون في التنظير لهذا الاتجاه النقدي أو ذاك، والوقوف عند هذا الحد، دون الاستفادة من آلياته وقوانينه، واستعمالها عملياً في ممارساته أو مقارباته النقدية، فضلاً عن الإعراض التام عن متابعة أو قراءة ما سوى ذلك الاتجاه من اتجاهات متعددة، والإطلاع عليها والاستفادة منها. إذ يستحال أن يثمر الفعل النقدي أو يسهم في تطور النص الإبداعي، ما لم يكن الناقد على إلمام واسع بمرجعيات الاتجاهات النقدية الحديثة المختلفة، وفهم أفكارها وطرقها والإفادة منها. خاصة وأن من أهم إسهاماتها إفساح المجال أمام تعدد القراءات، ورفض إعلان بلوغ النص منتهاه من الجمال والدلالة. أي إنها ترفض احتكار المعرفة أو القراءة وتفتح الباب أمام التعدد في المقاربات النقدية؛ ليبقى النص الإبداعي مصدر عطاء مستمر، وعلى وفق أسس نقدية توجه المبدع إلى الارتقاء بالنص، من خلال استفادته من البنية التركيبة للغة، وما تحمله من تنوع ثقافي وثراء دلالي تولده التجارب النقدية المتعددة.  
الحجر الصحفي في زمن الحوثي