أسئلة غير بريئة أمام مشاريع نقد العقل العربي

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ٠٧ سبتمبر ٢٠١٤ الساعة ٠٧:٠٦ مساءً
 
العقل العربي ليس سوى إشكالية أو معضلة أو أزمة .... هكذا تصدى العلماء والمفكرون والفلاسفة العرب للعقل العربي ...  إنه عقلٌ معقدٌ في تاريخه وواقعه.
 
وبناءً على هذا التوصيف، اشتغل كثير من المفكرين العرب حديثاً على هذه الأزمة أو المعضلة، بل إن بعضاً منهم اتخذ من نقد العقل مشروعاً علمياً، أفنى حياته في تحليل مكوناته وتفكيك بنياته ونقد إشكالياته. ويأتي في طليعتهم المفكر العربي محمد عابد الجابري، الذي بدأ مشروعه بنقد العقل العربي باعتباره كما يقول: أساس كل بناء ونهضة، وذلك في كتابه (تكوين العقل العربي). وأخذ في هذا الكتاب يطرح الأسئلة حول كيفية بناء نهضة بعقل غير ناهض، لا يؤمن بالمراجعات النقدية الشاملة، ومناقشة المفاهيم والتصورات العقلية، في سياق النظر إلى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية من جهة، والنظر في كيان العقل العربي وآلياته من جهة ثانية. 
 
وفي إطار مشروع الجابري جاء كتابه الثاني (بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية"، الذي حلل فيه النظم المعرفية الثلاثة (البيان، والعرفان، والبرهان) باعتبارها أهم مكونات البنية الداخلية للعقل العربي. ثم جاء كتابه الثالث (العقل السياسي العربي)، وكتابه الرابع (العقل الأخلاقي العربي". وهو في جميعها يمارس نقد العقل من خلال أنظمة المعرفة الرسمية في الثقافة العربية.
 
وثمة أسماء أخرى لمفكرين عرب اشتغلوا كذلك على العقل العربي، ليس انحيازاً له، وإنما اتهامٌ له؛ باعتباره أساس مشاكل الأمة ومآسيها، ومصدر تخلفها عن ركب العلم والمعرفة والحداثة. ولعل من أهم هذه الأسماء (جورج طرابيشي)، صاحب المشروع الضخم الذي عمل عليه لعقدين من الزمن، مركزاً جهده على (نقد نقد العقل العربي)، أي نقد مشروع المفكر محمد عابد الجابري القائم على نقد العقل العربي، وكانت ثمرته خمسة مجلدات، منها: (نظرية العقل العربي)، و(إشكالات العقل العربي)، و(وحدة العقل العربي). 
 
وبما أن مشروع جورج طرابيشي يقوم في أساسه على نقد مشروع المفكر العربي محمد عابد الجابري، فقد اتهمه بالتزييف ومجانبة الفهم الصحيح للأسس المعرفية، وبالغ كثيراً في نقد مشروع الجابري، وشكك في قيمته وفاعليته، واتهمه بالانتهازية، وبناء تصوراته ومفاهيمه ورؤاه لتحقيق أهداف أيديولوجية.
 
المهم أن المشاريع العربية التي تناولت العقل العربي دراسة وتحليلاً ونقداً وتفكيكاً، هي مشاريع فردية، وقد جعلت العقل إشكالية الإشكاليات التي تعاني منها الأمة. ولذلك لا غرابة أن تجيء تلك المشاريع تحت عناوين مأزومة، تثبت أن أصحاب هذه المشاريع جزء لا يتجزأ من وضعية العقل العربي، وحقيقته الباعثة للحزن والألم. وإذا ما وقفنا عند لغة هذه العناوين وبنيتها التركيبية، فإننا سنقرأ أكثر من كتاب بعنوان (إشكالية العقل العربي). و(أزمة العقل العربي) و(أزمة العقل المسلم)، و(مغامرة العقل العربي)، و(نقد العقل العربي)، و(تخلف العقل العربي).  
 
إن الإطلاع على المشاريع النقدية للعقل العربي، يفضي إلى التأكيد على وجود خلل بين في بناء هذه المشاريع، فهي لم تكن لبنات بعضها فوق بعض، ولم تكن مكملةً لبعض، بل إنها لا تلتفت إلى بعض بنية سليمة ومعافاة من الوهم والتربص والشك، وليس في نيتها أيضاً الاستفادة والتقويم الإيجابي. فكل مشروع يأتي بأحكام جازمة وقاطعة، ويأتي الذي يليه ليتناوله باستعجال ودون تأمل أو تقييم عميق. ولذلك فهو يقلل من شأنه ويعطل حركته، بسبب اتهامه بالعجز والتزييف والمغالطة. أي إنه ينقض تلك الأحكام القطعية بأحكام قطعية جديدة، وهكذا دواليك. زد على ذلك بروز تضخم الذات في تلك المشاريع، وهو ما أدى إلى انعدام الجدة والعمق، ودخولها في إطار تنظيري لا يخلو من الانطباعية وتأثيرات النسق المضمر. 
 
إن وضع تلك المشاريع النقدية في ميزان القيمة والنتائج والفاعلية، يستدعي أسئلة غير بريئة، منها: لماذا الإصرار على أن العقل العربي مأزوم، وأنه المعضلة الحقيقة؟. وهل هو مأزوم فعلاً؟. ولماذا فشلت تلك المشاريع أو المراجعات النقدية عن كشف مكامن إعاقته وعجزه؟. أليست ممارسات أصحاب هذه المشاريع المتضادة والمتناقضة والمتصادمة تثبت أنها جزءٌ لا يتجزأ من أزمة هذا العقل وتخلفه؟!!!.  ولماذا تتحاشى هذه المشاريع البحث بعمق في علاقة أزمة العقل بالفكر الديني؟ وكذلك الغوص في علاقة أزمة العقل بالثقافة الشعبية، كالعادات والخرافات والأساطير؟. ولماذا نحَّى محمد عابد الجابري هذه الثقافة الشعبية عن مشروعه النقدي، واعتمد فقط على ما أسماها (الثقافة العالِمَة)؟.
 
أسئلة تستدعي أخرى، وتستوجب الوقوف عليها، وخاصة ما يتصل بعلاقة أزمة العقل بالفكر الديني، والموروث الشعبي. أليس العقل العربي نتاج ثقافة إيديولوجية وشعبية بامتياز؟، ألم يؤمن هذا العقل بالخرافات والأساطير؟. أليست الأزمات والنكبات التي نعيشها اليوم وليدة ذلك؟. 
إذن، فإن تحليل هذا العقل ونقده لا يفيد في حال تم إغفال أو تجاهل أهم وأقوى المؤثرات عليه، وهي العقائد والأعراف والعادات التي تشكل الأفكار والقناعات على نحو يقيني لا يقبل التشكيك والنقد. 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي