حضرموت التي يُتأمر عليها !!

محمد عبد الوهاب الشيباني
الجمعة ، ٢٢ أغسطس ٢٠١٤ الساعة ٠٨:٤١ مساءً
 
شاءت لي الظروف ان اكون في رحلة عمل الى مدينة المكلا بعد يومين من احداث الخميس الدامي (14 اغسطس 2014) ، التي شهدتها المدينة بمهاجمة مجاميع قاعدية لها بسيارات مفخخة ، وعناصر مسلحة انتوت السطو على احد البنوك فيها ، مثيرين بعمليتهم هذه الرعب في المدينة الوادعة ، التي يراد لها خلع جلباب التسامح والتعايش ، لتلبس رداء العنف والكراهية الذي لم تلبسه في تأريخها وتمدنها الطويل ، لكنها ومنذ اعوام اربعة بدأت تعاني بفعل ذلك جراء دعوات العنف المتصاعدة بسبب الانفلات المريب لتجد صداها في اوساط الشباب بطريقة تثير القلق.
 
في منتصف 2010 كانت اخر زيارة لي الى عاصمة محافظة حضرموت ، وما لفت نظري وقتها ان المكلا مثلها مثل بقية مدن الجنوب وحواضره صارت ترزح تحت ضغط المد الحراكي ، الذي استقطب الالاف من شرائح المجتمع ومكوناته الى صف الصوت الضاج المنادي باستعادة الدولة غير ان صوتا اخر بدأ ينبثق بقوة من داخل الحركة الكلية للصوت الصاخب آخذا بعدا جديدا ، وهو بعد (الحضرمة) ، اذ بدأ هذا الصوت المغاير يعبر عن نفسه بوصفه صوت الخصوصية (ببعديه الثقافي والتاريخي) ، الذي يريد لهذه الجغرافية ان تستعيد هويتها بعيدا عن وصايا الوحدويين والانفصاليين معاً ، فمظلومية لحظة الاستقلال ـ كما يريد قوله هذا الصوت ـ هي التي اوقعتهم في شرك المغامرين والمقامرين السياسيين الذي تسلموا جغرافية شاسعة توحدت اجزائها المتناثرة (سلطنات وامارات ومشيخيات) اواخر ستينيات القرن الماضي (1967)، بفعل مد قومي طاغ كان يجد في التحولات التاريخية والاجتماعية (في المركز والهوامش معاً) حواضن مهمة في المجتمعات المحلية الفقيرة ، التي كانت حضرموت (الطبيعية) احداها، وحين دخلت البلاد برمتها في شكل الدولة الجديدة (الجمهورية اليمنية) في مايو 1990 بتوحد دولتي (الجنوب والشمال) وجدت حضرموت نفسها ضمن هذا الشكل الجديد (بلا رغبة منها) كما يذهب اليه هذا الصوت.
 
اذا ورطتان تاريخيتان اوقعتا حضرموت في وهم الدولة (الوطنية) ، في محطتين زمنيتين مختلفتين ، والخروج منهما ـ حسب الصوت ذاته ـ لن يتم الا بمكابدات قاسية اقلها الفكاك من نفوذ مراكز القوى التي وجدت في تسامح اهل حضرموت ، مدخلا لتفخيخها بكل ما هو (سيئ) بهدف ابعادها عن أي مشروع استقلالي هي في الاصل مهيأة تماماً لامتلاكه .
 
الثروات الطبيعة الكبيرة والمتنوعة التي تمتلكها حضرموت ، كانت مطمعاً لمراكز النفوذ في المركز(العاصمة) التي قامت بتأسيس شركات نفطية ، او احتالت على توكيلات الشركات المعروفة التي عملت في القطاعات النفطية نهباً وتدميرا فاضحاً لقرابة عشرين عاماً ، بتسهيلات من مركز الحكم ،ودائرته الضيقة التي لم تكن بعيدة عن مزاج النهب المنظم الذي كان يُحمى بقوات عسكرية ضاربة ، استقدمت من الشمال الى مناطق الحقول لهذا الغرض ، حتى ان قائد القوات التي اوكل لها حماية الشركات تحول الى ملياردير حقيقي جراء الاتاوات التي تفرض على هذه الشركات ، وان جزء مهم منها كان يذهب الى قادة كبار في العاصمة معروفين بالاسم ، وكل هذا يتم بعيداً عن القرار الذاتي لأبناء حضرموت الذي لم يتعد حضور بعض المؤثرين منهم دور المحلل ، بما فيهم اصحاب رؤوس الاموال الذين عادوا ببعض فتاتها من الخارج(الخليج والسعودية تحديداً) ليعمل في بعض المشاريع الخدمية البسيطة ، والصناعات التحويلية او السمكية الى جانب اعمال الرعاية الاجتماعية للأسر الفقيرة !! 
 
اما حين بدأ الصوت الحضرمي يعبر عن ملله بنشره قوائم النهابة من مراكز النفوذ وشاغلي الوظائف الحيوية وغير الحيوية في المحافظة من خارج ابنائها مستقطباً الى صفه المزاج العام للشارع ، لم يكن امام اصحاب المصالح (داخل وخارج حضرموت ) سوى ادخال المحافظة (ساحلا ووادياً) في دوامة العنف والفوضى ، التي ابتدأت باستخدام هامشيي المدن وعواطليتها (الذين سبق وان جُروا الى مربعات الادمان والحاجة) في ترويع المواطنين البسطاء من ابناء المحافظات الشمالية والذين يعملون في مهن واعمال خدمية بسيطة ونهب واحراق محلاتهم وبسطاتهم (في المكلا والغيل والشحر وسيئون) ، مشعلين بذلك فتيل الكراهية وعصبويات الانتماء الجغرافي بطرائق لم تخل من عنصرية فجة.
 
ولان المجتمع الحضرمي معروف بتسامحه الديني ومسحة التسنن الصوفي المتآلفة مع المكان الوادع وطبيعته (التي جعلت من التجار الحضارم يمثلون رسل سلام ومحبة دينية في شرقي آسيا وافريقيا في القرون الماضية) ، لم يكن امام قوى الشر من طرق بديلة لتشويهه سوى بتفخيخه بجماعات العنف الديني الدخيلة على المحافظة ،التي استغلت غياب الدولة وانعدام برامج التنمية واتساع مربعات الفقر وانتشار البطالة في الارياف والعشوائيات حول المدن للتكاثر بل وتحويلها الى حواضن صلبة للخطاب المتطرف.
 
مدينة (القطن) القريبة من سيئون مثلا ً تحولت بمرور الوقت الى مركز تفريخ عجيب للجماعات الدموية بسبب ان التركيبة الديموغرافية للمدينة الصغيرة تبدلت الى النقيض خلال سنوات قليلة ، لان الوافدين اليها والمستقرين بها من خارج المحافظة تجاوزت نسبتهم السبعين في المائة ،اشتغل معظمهم في اعمال غير قانونية لهذا ليس بمستغرب ان تتحول الى مركز لافت من مراكز التهريب والجريمة المنظمة التي تساعد على استيطان الافكار المنحرفة فيها.، منطقة (الخربة ) في ريف المكلا وعشوائيات (فوة) و(غليلة) و(بويش) و(الكود) ومناطق البدو المحيطة بالمكلا والغيل والشحر حيث تتعاظم نسبة البطالة في اوساط الشباب غدا حضور القاعدة فيها امراً طبيعياً لأنها قدمت نفسها كبديل للقوى السياسية والاجتماعية الغائبة ، المفترض ان تكون مثل هذه المناطق مساحات تتبارى فيها افكارها واستقطاباتها التنظيمية .
 
ومع كل ذلك لم تزل حضرموت تؤجل لحظة فنائها وتقاوم مثل هذا التدمير الممنهج لإرثها الثقافي والاخلاقي ففي المكلا القديمة لم تزل سماحة الحضرمي واخلاقه وبساطته حاضرة بقوة في المقهى والمتجر والمطعم ، لم تزل نظافة المكان وانضباطية الناس لحظة رائعة تتجسد في الفضاء العام الذي لم يزل متشبثاً بالحياة بالرغم من الموت الذي يٌراد له تلبسها مثل سوار في معصم.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي