رحيل أبو الجزائريين.. هل سيكون عبرة لغيره؟

كتب
الاربعاء ، ١٨ ابريل ٢٠١٢ الساعة ٠٣:١٣ صباحاً
بقلم / محمد الخامري
بقلم / محمد الخامري

 كنت اسمع كثيرا عن الزعيم الجزائري الأكثر كاريزمية وواقعية في المغرب العربي احمد بن بله، الذي يعتبره الشعب الجزائري الأب الروحي لهم "ابو الجزائريين"، ولم أكن أتوقع أن ألتقيه يوما ما، إلى أن شاء الله وذهبتُ إلى الجزائر منتصف كانون الأول (ديسمبر)2010م للمشاركة في المؤتمر الدولي لإحياء الذكرى الخمسين لمنح الاستقلال للدول والشعوب المستعمَرة، وهو المؤتمر الذي حضره عدد كبير من الزعامات التاريخية والشخصيات السياسية والفكرية والثقافية من أنحاء العالم كافة، لاسيما من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

كنت اجلس بجوار "الوسيط الدولي" المفكر والسياسي العربي الكبير الأخضر الإبراهيمي حينما أمسك بيدي وشد عليها وقال تعال نُسلم ونعود..!!

استغربت ولم أكن اعرف الشخصية التي دخلت القاعة الكبرى بقصر الأمم.. رجل كبير في السن، وحوله العديد من الشباب والشخصيات السياسية والزعامات التاريخية الأفريقية التي كنت اعرفها صورا ولا أعرف مناصبها أو جنسياتها، وفوجئت فيما بعد أن منهم رؤساء دول افريقية لا أحفظ أسماءهم ربما لانقطاع التواصل التاريخي والسياسي مع القرن الأفريقي، كانوا يتوددون له ويمازحونه وهو يرحب بهم ترحيبا حارا ويحاول أن يُصغي لكل واحد منهم..

انه الزعيم الجزائري البطل احمد بن بله رحمه الله، أول رؤساء الجزائر بعد الاستقلال، وقبلها أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني التي سجن بعد تأسيسها لأكثر من 7 سنوات متتالية.. هكذا عرفني الإبراهيمي بأبو الجزائريين احمد بن بله..

عندما رأى الإبراهيمي أنني اجهل شخصية بن بله ومبهور به هو؛ حاول - كعادة العظماء - أن يعطيني لمحة متكاملة عن الرجل الآخر، وكأنه يقول لي هذا هو البطل الحقيقي والأحق بأن تنبهر به يابُني..!!

في يونيو 1965م تم عزل بن بله من منصبه كأول رئيس للجزائر انتخب مباشرة من قبل الشعب، وظل معتقلا حتى 1980م (15 عاما)، وبعد إطلاق سراحه أنشأ الحركة الديمقراطية للجزائر، وعرض عليه القذافي أن يدعمه ويمده بالأموال والسلاح لإعادته إلى الحكم، لكنه رفض ذلك وبدأ يعمل لصالح البلاد في مجال العمل المدني والخيري وتمثيل الجزائر في المحافل الدولية..

لم يطمح أو يحاول العودة إلى السلطة أو المنافسة عليها، الأمر الذي أكسبه تعاطف الشعب الجزائري رغم ماقيل عنه عند الانقلاب عليه عام 65م، من انه خرج عن خط الثورة واستأثر بالسلطة واتهامه بالديكتاتورية والشوفينية..

عندما نقارن ظروف عزل أحمد بن بله وظروف عزل بعض الزعماء العرب نستشف أن العظماء يحرصون وبشتى الطرق على أن يحافظوا على توازنهم في أحرج المراحل، وان يصنعوا تاريخهم من بين ركام الاتهامات والإشاعات المغرضة؛ عكس الآخرين الذين يستهويهم دور الزعامات والفقاعات المملوءة بالهواء، والهالات الإعلامية، ولايستطيعون العيش إلا في الأضواء والبهرجة الكاذبة، والتاريخ يُسجل لهذا وذاك، والأجيال تقرأ وتقرر، إما أن تلعن أو تترحّم..!!

تم عزل العظيم احمد بن بله لمدة 15 عاما في بيت خاص، في منطقة شبه معزولة، ولم يُسمح لأحد بزيارته، ولم تُجدِ تدخلات العديد من الزعماء والرؤساء والذين كانت تربطهم به صداقات وعلى رأسهم جمال عبد الناصر في إطلاق سراحه..!

حديث الأخضر الإبراهيمي عن الزعيم الجزائري بن بله، واحتفاء الجزائريين بهذه الشخصية العظيمة، وحرصهم على أخذ الصور معه والحديث إليه والسلام عليه من كبار السياسيين قبل الشباب جعلني أبحث عنه وعن تاريخه، فأعجبت بوسطيته واعتداله في الفكر والسياسة، وهي وسطية محمودة قلما توجد في رئيس عربي معاصر؛ فضلا عن من يعتبرون أنفسهم زعماء لشعوبهم..!!

- يقول ابن بله عن فترة اعتقاله أنّه استفاد من أجواء العزلة واستغلّ أوقاته في المطالعة والقراءة حيث بدأ يتعرف على الفكر الإسلامي وغيره من الأطروحات الفكرية، وعندما حلّت السلطة الجزائرية الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد فوزها في الانتخابات عام 1991م اعترض على ذلك وغادر الجزائر مجددا وتوجه إلى سويسرا، ومافتئ هناك يطالب بالمصالحة الوطنية بين الجزائريين عن طريق الحوار الوطني الجاد والجامع لكل الجزائريين دون استثناء أو إقصاء..!؟

- سُئل بعد خروجه من السجن هل أنت علماني فأجاب بأنّه ليس علماني وليس من دعاة العلمانية، وهي نتاج غربي محض جاءت لتحلّ محل الكنيسة ونجم عن ذلك الفصل ما بين الدين والدولة ومن يدعو إلى العلمانية كما قال بن بله؛ فهو يريد أن يلبس جلدا غربيا لجسد إسلامي، انّه يريد تغريب مجتمعه ويبعده عن الحضارة الإسلامية الإطار الصحيح لأي منظور سياسي في الحكم، لكنه بالمقابل أيضا كان يرفض حكم الفقهاء وتسييس الدين؛ واللعب به في سوق السياسة الكذابة، وقال إنّه ليس خمينيا ولا يلبس عباءة أي شخص "أنا مجرد مواطن جزائري"..!!

- وسُئل بن بله عما يريده من الجزائر بعد 45 عاما من استقلالها فقال: لا أطلب غير تحرير البلاد من التبعية أو الارتهان للخارج، والعمل على إحياء الوحدة بين الدول المغاربية.. ولمن يتأمل: هي نفس البؤر العفنة التي نعاني منها في اليمن..!!

 أعتقد أن فيما أوردته أعلاه؛ العديد من القواسم المشتركة بين الزعيم الراحل احمد بن بله وبعض الشخصيات المحورية سواءً في اليمن أو غيرها، والذين كانوا ولازالوا يبحثون عن الزعامة عبر وسائل الإعلام والاستقواء بالمال والسلاح، ويُفضلون الانتصار للذات عن الانتصار على الذات وتغليب مصلحة الوطن..

 بكت الجزائر قاطبة يوم وفاة الزعيم احمد بن بله، ونكست الأعلام وأعلنت الحداد 8 أيام على زعيم حكمها سنتين ونصف فقط (!!) لكنه أعطاها حبه وخلاصة فكره وعطائه، وعمل لها من موقعه في شتى المجالات.. لم ينتقم ممن عزله، ولم ينتصر لذاته أو يحاول العودة إلى السلطة عبر الاستقواء بالخارج أو المال والسلاح رغم وجود من سيدعمه ومن كان يطلب منه الثأر لنفسه، لم يعمل على تخريب البلاد وزعزعة الأمن والاستقرار لإثبات أن عهده كان الأفضل..

 ذلك هو أحمد بن بله الذي توفي الأربعاء الماضي 11/4/2012 عن 96 عاما، فهل يكون عبرة لمن حكموا شعوبهم عقودا من الزمن وأمهلهم القدر، بأن يصنعوا لأنفسهم زعامة حقيقية نابعة من القلوب فيما تبقى من حياتهم، ليبكيهم الشعب عند وفاتهم؛ وتنكس لهم الأعلام ويُعلن الحداد الرسمي والشعبي.. نتمنى ذلك فالسعيد من اتعظ بغيره..!!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي