نلسون مانديلا ..زهرة الربيع السوداء

كتب
الجمعة ، ٢٨ يونيو ٢٠١٣ الساعة ٠٤:٣٣ صباحاً

 

 . مر ويمر المناضل والزعيم الكبير مانديلا بازمة صحية شديدة في الايام الماضية، نتيجة التهاب رئوي حاد، وقد بلغ من العمر عتيا. وقالت الانباء انه موصول الآن باجهزة دعم الحياة.... فكان من الواجب توجيه هذه التحية المتواضعة الى الرجل الكبير النبيل.

 

ونعرض هنا للقارئ الكريم السيرة الذاتية للمناضل زعيم الحزب الوطني الإفريقي ورئيس جمهورية جنوب أفريقيا الاسبق والقائد العالمي نلسون روليهلاهلا مانديلا. وقد نشر مانديلا سيرته هذه في عام 1994م بالإنجليزية ونشرت ترجمته العربية من دار سبال وهي جمعية نشر اللغة العربية في جنوب أفريقيا في العام 1998م وترجمه من الإنجليزية السيد عاشور الشامس وكان العنوان"  رحلتي الطويله إلى الحريه"

 

تقع المذكرات في 585 صفحة من القطع المتوسط وتضم 115 فصلاً. ويمتاز الكتاب بتسلسل بديع يعرض فيه مانديلا لطفولته وصباه وشبابه ثم لنضاله الطويل من أجل شعبه، إضافة إلى السبعة والعشرين عاماً التي قضاها في سجن الحكومة العنصرية في جنوب إفريقيا وخرج منه رئيساً لبلاده. وتتميز الترجمة العربية بلغة جيدة متماسكة وجميلة جعلت قراءة هذا الكتاب تجربة ممتعة، فلا يرغب المرء في تركه من يده إلا وقد أتى على آخر سطر فيه على الرغم من ضخامة حجم الكتاب.

 

ولعل أكثر ما شد انتباهي في هذا الكتاب الدور الذي لعبته خطبة سمعها مانديلا من أحد رجال قبيلته الحكماء في حفل أقيم بمناسبة دخوله وزمرة من أترابه سن الشباب، ثم قصيدة سمعها من شاعر وطني وهو بعد لايزال طالبا. وفي ذلك دلالة على ما للكلمة من أهمية قصوى في حياة الأفراد والشعوب.فلا يتذمرن الكتاب إذن من أنه لاسميع، فالكلمة تحتاج ألى زمن كاف كي تختمر في العقول وتؤتي أكلها.

 

طفولة مانديلا:

 

أسماه أبوه عند ولادته روليهلاهلا وتعني في لغة الكوسا (المشاغب). وينتمي مانديلا إلى أسرة التيمبو الملكية لشعب الكوسا الذي يقطن في إقليم ترانسكاي بجمهورية جنوب أفريقيا، ومن عشيرة ماديبا نسبة إلى أحد سادة التيمبو الذين حكموا إقليم ترانسكاي في القرن الثامن عشر.

 

ولد مانديلا في الثامن عشر من يوليو عام 1918م في قرية مافيتزو على ضفة نهر أمباشي بمقاطعة أومتاتا عاصمة إقليم ترانسكاي، ويقع إقليم ترانسكاي على مسافة 550 كليومتراً جنوب جوهانسبيرغ  العاصمة. وكان والده غادلا هنري مافاكانيسوا سيداً بحكم السلالة والعرف معاً وقد نصب زعيماً لقرية مافيتزو على يد ملك التيمبو.

 

تزوج والده أربعة زوجات وكانت أم مانديلا هي الثالثة واسمها نوسكيني فاني. وقد كان لكل زوجة سكن خاص يسمى كرال، يضم حظيرة صغيرة للمواشي، وحقلاً لزراعة المحاصيل، وأكثر من بيت مسقوف بالقش وأعراف الشجر. وتمتد المسافة بين كل كرال وآخر عدة أميال، كان والده يتنقل فيما بينها بالتناوب وكانت حصيلة تردده على زوجاته ثلاثة عشر ولداً وكان مانديلا أصغر إخوته.

 

 

 

صدفة تفتح له طريق التعليم:

 

التحق مانديلا بالمدرسة الابتدائية بعد أن تم تعميده في الكنيسة الميثودية التبشيرية عندما بلغ السابعة من العمر، وهناك في المدرسة أسمته مدرسته باسم نلسون. وبعد وفاة والده كفله ملك التيمبو الزعيم "نونغينتابا مالندينو" ونقله إلى قصره المسمى المكان العظيم في ميكيكزويني عاصمة بلاد التيمبو، وقد فعل الزعيم ذلك لأن والد مانديلا كان قد حسم خلافاً على وراثة العرش بين الأخوة لصالح هذا الزعيم. وهناك تمكن مانديلا من مواصلة دراسته.

 

 

 

تفتح وعيه الوطني:

 

كان يجتمع في بيت ملك التيمبو زعماء قبلية الكوسا حيث يتحدثون عن تاريخ بلادهم في مسامراتهم التي كان مانديلا يسترق إليها السمع. ويذكر مانديلا الزعيم القبلي يووي، الذي كان يصب جام غضبه على الرجل الأبيض الذي كان في اعتقاده وراء التشتيت المتعمد لقبيلة الكوسا وخلق العداوات بينها، وكان يقول: "أن الملكة البيضاء وراء المحيط لم تجلب للسود سوى الشقاء والغدر فهي زعيم شؤم وشر". ويقص مانديلا قصة مناسبة ختانه مع أربعة وعشرين من أقرانه عندما بلغ السادسة عشرة من العمر، وهي مناسبة جليلة في تقاليدهم حيث يرمز الختان إلى نهاية عهد الصبا وبداية عهد الرجولة، يقول مانديلا أنه أقيم حفل كبير بعد الختان وكان المتحدث الرئيسي فيه الزعيم القبلي (ماليغقيلي دالينديبو) الذي قال: "انظروا إلى أبنائنا الجالسين أمامنا، إنهم شبابٌ تبدو عليهم كل علامات الصحة والوسامة. إنهم زهرة قبيلة الكوسا، ومحط فخر شعبنا العريق. لقد ختنوا بالأمس في تقليد عريق يحمل إليهم وعداً بالرجولة. ولكن أقول أنه وعدٌ كاذب لأننا نحن الكوسا وجميع السود في جنوب أفريقيا شعوب مهزومة وعبيد في وطننا، نقيم على ترابه ولا نملكه، لا قوة لنا ولا سلطان في أرض ولدنا عليها، ولا نتحكم في مصيرنا بقليلٍ أو كثير. سيذهب الشباب للعمل في مناجم الرجل الأبيض فلا يرون الشمس ولا يتنفسون إلا الهواء الملوث حتى تتقطع رئاتهم وتنهك أجسادهم من أجل أن يعيش الرجل الأبيض في نعيم ورخاء لا مثيل لهما. ثم يختم الزعيم ماليغقيلي حديثه بقوله: إنني أعلم جيداً أن الإله (قاماتا) بصير بكل شيء وأن عينه لا تنام، غير أنني يساورني بعض شكٍ في أنه غلبه بعض النعاس، وإن كان الأمر كذلك، أرجو أن يعجل بموتي كي ألقاه فأوقظه من سباته وأخبره بأن زهرة شعب الكوسا يحتضرون". ويقول مانديلا: لقد بذر الزعيم ماليغقيلي بذرة لن تجد سبيلها إلى النمو ولن تؤتي ثمارها في حياتي إلا بعد فترة طويلة من الزمن.

 

 التحق مانديلا عام 1937 وهو في التاسعة عشرة من عمرة بكلية هيلد تاون الميثودية بمدينة هيل فور، وكان للكلية مدير بدين منغلق الفكر يدعى آرثر وللينغتون، كان من عادته أن يفتخر عندما يفتتح طابور الصباح بقوله: أنا حفيد الارستقراطي ورجل الدولة الجنرال دوق وللينغتون العظيم الذي دحر الفرنسي نابليون في معركة ووترلو وأنقذ الحضارة من أجل أوروبا ومن أجلكم أيها المواطنون الأصليون.

 

 وفي هذه الكلية تلقى وعي مانديلا صدمته الثانية، ويقص مانديلا الواقعة فيقول: "عند اقتراب نهاية السنة الأخيرة من إقامتي في هيلد تاون وقعت حادثة كان لها علي وقع الشهاب وهو يخترق السماء؛ إذ أعلن أن شاعر الكوسا العظيم كروني امقهاي سيزور الكلية. وامقهاي في الحقيقة من شعراء المديح. وهم أشبه بالمؤرخين الذي يسجلون احداث الماضي والحاضر بشعر مرتل ذي معان قومية خاصة.

 

أعلن يوم الزيارة عطلة رسمية، وتجمع كل العاملين والطلاب - سوداً وبيضاً - عند الصباح في قاعة الطعام التي كانت تقام فيها عادة التجمعات. وفجأة فتح الباب الخاص الذي كان لا يدخل منه إلا الدكتور وللينغتون ودخل رجل أسود يرتدي ثوباً من جلد النمور وقبعة، حاملاً رمحاً في كل يد وخلفه الدكتور وللينغتون. وكان لمظهر ذلك الرجل الأسود بملابسه التقليدية وقع الصعقة الكهربائيه، وقف أمقهاي يتحدث منفعلاً ورفع رمحه في الهواء فإذا به يضرب سلك الستارة بصوت مزعج. نظر أمقهاي إلى رمحه في إمعان وأخذ يروح جيئة وذهاباً على المنصة مستغرقاً في التفكير، ثم توقف وتحدث إلينا بحيوية ليقول بصوت مرتفع:" إن الرمح يمثل تاريخ أفريقيا المجيد، وهو رمز الأفريقي المحارب والفنان، أما السلك فهو مثال التصنيع الغربي، فيه مهارة وذكاء ولكن لا روح فيه. واستطرد الشاعر يقول: إن ما أتحدث عنه ليس مجرد احتكاك الرمح بقطعة من المعدن ولا هو مجرد تداخل الثقافات، وإنما اتحدث عن الصدام الشرس بين ما هو فطري وجميل وبين ما هو مصطنع وقبيح. يجب ألا نسمح للأجانب الذين لا يحترمون ثقافتنا بأن يسيطروا على أمتنا، وها أنا أؤكد لكم أن قوى المجتمع الأفريقي ستنتصر يوماً ما انتصاراً هائلاً على الدخلاء. لقد استسلمنا طويلاً لآلهة الرجل الأبيض المزيفة ولكننا سننهض وننفض عنا تلك الأفكار الدخيلة".

 

تعليمه العالي:

 

في عام 1960م انتقل مانديلا إلى الكلية الجامعية في فورث هير ببلدية أليس، التي كانت المركز الوحيد للتعليم العالي المخصص للسود في جنوب أفريقيا، وكانت منارة لطلاب العلم الأفريقيين من جميع مناطق القارة الأفريقية الجنوبية والوسطى والشرقية. وفي هذه الكلية الجامعية خاض مانديلا أول تجربة نضالية ووجد نفسه أمام أول اختيار أخلاقي. ففي انتخابات مجلس الطلاب كانت هناك مطالب للطلبة تتعلق بنوعية الطعام وصلاحيات المجلس الطلابي، وقرر أغلبية الطلاب مقاطعة الانتخابات. ولكن الإدارة قررت إجراء الانتخابات في موعدها ولم يشارك في التصويت إلا سدس عدد طلاب الكلية وانتخبوا ستة ممثلين كان مانديلا واحداً منهم. وكان موقف مانديلا أنه ما دام أغلبية الطلاب لم يدلوا بأصواتهم فإنه ليس من الصحيح أخلاقيا الإدعاء بشرعية الانتخابات ولذلك قدم استقالته من المجلس. وفي اليوم التالي استدعاه الدكتور كير مدير الجامعة وطلب منه الرجوع عن الاستقالة أو مغادرة الكلية، يقول مانديلا: "وصلت إلى مكتب الدكتور كير في الصباح التالي وأنا في حيرة كاملة لم أفق منها إلا عندما سألني الدكتور كير إن كنت قد توصلت إلى قرار في الأمر، فأجبته بأنني لا أستطيع أن أرضي ضميري بالاحتفاظ بعضوية المجلس الطلابي". وبذلك خسر مانديلا مقعده في الكلية.

 

سافر مانديلا إلى جوهانسبيرج بعد أن اختلف مع راعيه الملك الذي أصر على ضرورة عودة مانديلا إلى الكلية والاعتذار للدكتور كير. وهناك التحق بمكتب (ويتكن وسيدلسكي وأيدلمن) للمحاماه بتوصية من المناضل الأفريقي الكبير فيما بعد "وولتر سيسولو"، الذي أخذ اسمه آنذاك يبرز في جوهانسبيرج كرجل ناجح، وزعيم من الزعماء المحليين يمثل مركز قوة في المجتمع. ولدهشة مانديلا علم  أن وولتر سيسولو الذي كان يظنه خريجاً جامعياً لم يجتز في الواقع الصف السادس في المدرسة، ويقول مانديلا: "كان لزاماً علي أن أصحح ما تعلمته في فورت هير وأن اسقطه من ذاكرتي، فقد علموني هناك أن الشهادة الجامعية هي الطريق إلى الزعامة، ولكنني تعلمت في جوهانسبيرج أن أبرز القياديين في المجتمع لم تطأ أقدامهم الجامعات. ورغم أنني درست كل المادة المقررة في اللغة الإنجليزية للمرحلة الجامعية، فلم يصل مستواي فيها - سواء من ناحية الفصاحة أو البلاغة - إلى مستوى كثير ممن قابلت في جوهانسبيرج من الذين لم يكملوا حتى المرحلة الابتدائية".

 

 

 

 

 

نضاله السياسي:

 

وخلال عمله في مكتب المحاماه تقدم مانديلا لدراسة القانون في جامعة جنوب أفريقيا بالمراسلة أملاً في الحصول على تأهيل لمزاولة مهنة المحاماه. وقد عاش مانديلا سنوات من الجوع والفقر المدقع خلال عمله في مكتب المحاماه، إذ كان لا يتقاضى إلا أجراً ضئيلاً جداً لا يكفي لسد ضرورياته، فكان يقضي أيامه في حالة دائمة تقريباً من الجوع. وكانت بدلته مهترئة مليئة بالرقع. وفي العام 1943م وبتأثير من وولتر سيسولو و(أنتون ليمبيدي)، الذي كان يحمل الماجستير في القانون، التحق مانديلا بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي كان يخوض نضالاً سياسياً سلمياً منذ ما قبل العام 1918م، والذي شارك في مؤتمر الصلح وعرض قادته قضية جنوب أفريقيا في المؤتمر.

 

وفي نفس العام 1943م ذهب مانديلا في وفد يضم ليمبيدي وبيتر آمدا، (شريك ليمبيدي في مكتب المحاماه)، وولتر سيسولو وأوليفر تامبو إلى الدكتور زوما رئيس حزب المؤتمر، وعرضوا عليه فكرة تأسيس رابطة للشباب تقوم بحشد التأييد للحزب. وبعد ذلك بفترة قصيرة تم تشكيل رابطة الشباب بقيادة (وليام أنكومو) وحضر أعضاؤها المؤتمر السنوي للحزب في ديسمبر 1943م، وهناك انتخب مانديلا عضواً في اللجنة التنفيذية لرابطة الشباب.

 

كان النظام في جنوب أفريقيا عنصرياً قائماً على التفوق العرقي، ولكنه كان في نفس الوقت نظاماً يمتلك هيئة قضائية فعالة تطبق القانون بنزاهة، ولكن القوانين كانت جائرة. وفي العام 1946م تولى الجنرال (سماتس) رئاسة الوزراء، واصدرت حكومته قانون حيازة الأراضي الخاص بالأسيويين، الذي حد من حركة الهنود وحددهم في مناطق، وقيد حقوقهم في شراء العقار. وقد قاوم الآسيويون القانون واقتصرت حملة المقاومة عليهم وحدهم، وقد اثرت مقاومتهم الرائعة في رابطة الشباب وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذين رأوا فيها أنها أكبر من كل ما قام به الأفارقة من خلال حزب المؤتمر.

 

وفي ذلك العام تزوج مانديلا من السيدة إيفيلين وأنجب منها ثلاثة أطفال، ولم تلبث أن طلبت الطلاق نتيجة لانشغاله المستمر بالنضال وغيابه الكثير عن الأسرة.

 

 وفي العام 1948م خسر الحزب المتحد بزعامة الجنرال (سماتس) في انتخابات البيض، وتولى السلطة الحزب الوطني الأفريكاني بزعامة الصحفي ورجل الكنيسة الهولندية الدكتور دانيال مالان، الذي كان حزبه يكن كرها ملتهباً للانجليز الذين كان يمثلهم الجنرال (سماتس)، والذين ظلوا عقوداً طويلة يعاملون الأفريكان البيض الهولنديين وحزبهم بكثير من الازدراء والاحتقار. تبنى دانيال مالان وحزبه الوطني سياسة الفصل العنصري (أبارتهيد) وتتمثل في إنشاء نظام جائر يقوم على تقنين جميع الأنظمة والقوانين التي وضعت الإنسان الأفريقي لعدة قرون في مرتبة أقل من مرتبة الإنسان الأبيض، وإضفاء الشرعية على ماظل أمراً واقعاً ولكن عشوائياً في غالبه، ودمجه في نظام واحد، شيطاني شرير في طبيعته، بعيد في مداه، ذي قبضة حديدة لا مجال للفرار منها. فكان لابد والحال هذه أن يتصاعد نضال حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ضد هذه السياسة الشريرة .ولكن الحزب ووجه بالقمع واتهم بالوقوع تحت تأثير الحزب الشيوعي، وتم تقديم قيادته للمحاكمة في قضية كبرى مشهورة في ظل قانون الطوارئ الذي أعلنته الحكومة عقب أحداث كارثة مدينة شاربفيل، التي قتل فيها تسعة وستون أفريقياً في مظاهرة سلمية اطلقت النار فيها على غالبيتهم من الخلف وبينهم نساء وأطفال. وقد اتهم في تلك القضية عدد كبير من قادة المؤتمر ورابطة الشباب والحزب الشيوعي. وكان حزب المؤتمر قد نظم حملة للتحدي على غرار، حركة اللاعنف الهندية التي نهجها المهاتما غاندي، وتتضمن القيام بتحدي القوانين العنصرية وارتكاب المخالفات من قبل أعداد كبيرة وفي مناطق متعددة في وقت واحد، لإجبار السلطات على سجن الجميع، ومن ثم توجيه أنظار الرأي العام العالمي والداخلي إلى القوانين العنصرية الجائرة. وبعد انتهاء فترة قانون الطوارئ كانت الحكومة قد حظرت نشاط حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي قرر التحول إلى العمل السري. وقد وضع مانديلا خطة التحول الى العمل السري التي عرفت باسم خطة مانديلا.

 

 

الكفاح المسلح:

 

 ولم يلبث مانديلا ورفاقه في المؤتمر أن رأوا أن سياسة اللاعنف لن تؤدي أية نتيجة، فقرروا إنشاء جناح مسلح للحزب أطلق عليه اسم الرمح (أمكا). وفي تلك الفترة في العام 1952م توارى مانديلا عن الأنظار، وقام بقيادة الجناح العسكري لحزب المؤتمر. وخلال فترة اختفائه أطلقت عليه الصحافة الجنوب أفريقية اسم "زهرة الربيع السوداء". وقد اعتمد هذا الجناح سياسة للتخريب بتفجير المصالح الاقتصادية والمنشآت الحكومية مع الحرص على عدم إصابة البشر خلال العمليات.

 

 

تأسيس منظمة الوحدة الافريقيه:

 

 وفي عام 1962م وصلت إلى حزب المؤتمر الأفريقي، في ديسمبر من ذلك العام، دعوة لحضور مؤتمر الحركة القومية لتحرير أفريقيا الوسطى والجنوبية، الذي عرف فيما بعد باسم منظمة الوحدة الإفريقية، والتي عقد مؤتمرها الأول في أديس أبابا في فبراير 1960م  وقد رأى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أن تلبية الدعوة من شأنها أن توفر للحزب أول وأروع فرصة للاتصال والحصول على الدعم والتدريب لأعضاء حركة آمكا. وعليه فقد أوكلت إلى اللجنة التنفيذية السرية بقيادة مانديلا رئاسة وفد الحزب إلى المؤتمر، وسافر مانديلا مع أوليفر تامبو وآخرين، وقد ساعدهما على ترتيبات السفر السرية رفيقهم في الحركة والحزب (أحمد كاثرادا)، حيث ألقى مانديلا خطاب الحزب في المؤتمر. وقد تلقى مانديلا تدريباً عسكرياً خاصاً لعدة أسابيع في أثيوبيا. ويورد مانديلا انطباعاته عن زياراته لعدد من الدول الأفريقية فيقول:

 

"طالما حلمت أيام الدراسة بزيارة مصر مهد الحضارة الإفريقية وكنز الكنوز في الجمال والعمارة والفن. كنت أحلم بالأهرام وتمثال أبو الهول ونهر النيل العظيم. اتجهنا بالطائرة إلى القاهرة أنا وأليفر تامبو وروبرت ريشا الذي قضى معي بقية الرحلة كلها.. وقضيت صباح اليوم الأول بكامله في المتحف، وتعرفت في بحر ساعات على ما صنعه المصريون من أعمال فنية ومعمارية عظيمة يوم كان البيض يعيشون في الكهوف. كانت مصر نموذجاً هاماً بالنسبة إلينا، فقد شاهدنا فيها عن كثب برامج التحول الاشتراكية التي وضعها الرئيس جمال عبد الناصر. فقد قلص من ملكية الأراضي الخاصة وأمم قطاعات من الاقتصاد ومهد للتصنيع وأقام التعليم على أسس ديمقراطية وأسس جيشاً حديثاً، وهي الإصلاحات والانجازات بعينها التي كنا نأمل أن تتحقق يوماً ما في جنوب أفريقيا والأهم بالنسبة إلينا آنذاك أن مصر كانت البلد الإفريقي الوحيد الذي له قوة عسكرية بحرية وجوية يمكن أن تضاهي قوة جنوب أفريقيا".

 

وعن السودان يقول نلسون مانديلا:

 

 "توقفت الطائرة في الخرطوم. اتجهنا نحو الجمارك وكان أمامي في الطابور (جو ماثيوس) وخلفي باسنر وزوجته (وباسنر من المناضلين البيض ضد التفرقة العنصرية)، ونظراً لأنني لم أكن أحمل جواز سفر كنت قد اعطيت وثيقة من ورقة واحدة في تنزانيا كتب عليها: هذا هو نلسون مانديلا مواطن من جمهورية جنوب أفريقيا مصرح له بمغادرة تنزانيا والعودة إليها. أبرزت تلك الوثيقة لموظف الجوازات السوداني المتقدم السن فتفرس في وجهي وابتسم ثم قال: مرحباً بك يا بني في السودان. وصافحني ثم ختم على الوثيقة. وعندما جاء دور باسنر أبرز للرجل العجوز وثيقة مشابهة ففحصها بإمعان ثم سأله بانزعاج ما هذه الوريقة؟ إنها ليست وثيقة رسمية! قال باسنر بكل هدوء أنها أعطيت له في تنزانيا لأنه لا يحمل جواز سفر. فرد عليه بإزدراء: لا تحمل جواز سفر وأنت رجل أبيض؟. تبادلت نظرة مع جو ماثيوز فهمس لي بألا أتدخل لأننا ضيوف ولا ينبغي أن نسيء إلى مضيفنا. ولكن باسنر إضافة إلى أنه كان رئيسي في مكتب المحاماه فقد كان من البيض الذين عرضوا أنفسهم للخطر في سبيل تحرير الرجل الأسود، ولم أكن أسمح لنفسي بالتخلي عنه في ذلك الموقف. توقفت قريباً من الموظف السوداني مؤمناً على إجابات باسنر ومزكياً ما يقول، فخفف الموظف من حدته وختم الوثيقة قائلاً لباسنر في هدوء: مرحباً بك في السودان".

 

السجن:

 

بعد عودة مانديلا من رحلته توجه إلى ديربان ليقدم تقريره إلى رفاقه في حزب المؤتمر، وعند عودته من ديربان استوقفهم كمين للشرطة واعتقل نلسون مانديلا، واتهم بالتخريب وقيادة منظمة سرية في قضية عرفت بقضية الدولة ضد نلسون مانديلا وآخرين. وكانت التهم تهماً عقوبتها الإعدام وقد اعتقل معه معظم قادة حزب المؤتمر الإفريقي وحركة آمكا ورابطة الشباب، إلا أن أوليفر تامبو الذي لم يعد من الرحلة إلى مؤتمر أديس أبابا بقي في الخارج يخوض نضالاً سياسياً واسعا،ً وأسس مكاتب كثيرة لحزب المؤتمر في أنحاء مختلفة من العالم.

 

 أما نلسون مانديلا ومن معه فقد حكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ونقلوا إلى جزيرة روبن الكالحة. وكان من ضمن الذين معه في السجن وولتر سيسولو وأحمد كاثرادا. وتقع جزيرة روبن قريباً من مدينة كيب تاون. وفي السجن خاض مانديلا ورفاقه نضالاً طويلاً لتحسين أحوال السجناء والتقيف المتبادل، وكانت لهم مواقف طريفة وعظيمة في آن واحد مع سجانيهم. وفي هذا السجن ظل مانديلا يمارس برنامجاً يومياً صارماً للرياضة البدنية والقراءة والكتابة وواصل دراسته القانونية بالمراسلة. وفي ذلك السجن أيضاً كتب معظم فصول هذه المذكرات التي نعرضها.

 

ويني مانديلا:

 

 وكان مانديلا قد تزوج من ويني مانديلا قبل دخوله السجن، وويني مانديلا اسمها (نوامزامو وينثرد ماديكيزيلا)، وهي من اسرة من أحد عشر ولداً، وأبوها مدير مدرسة أصبح فيما بعد رجل أعمال. ويرجع اصلها إلى منطقة بيزانا في بوندولاند، وهي منطقة بالقرب من مسقط رأس مانديلا في ترانسكاي. وتنتمي ويني إلى عشيرة فوندو من ابناء أمانجو تيانا، وجدها الأكبر هو ماديكيزيلا الذي كان من أقوى زعماء ناتال في القرن التاسع عشر. وقد كان الزفاف في 14 يونيو 1958م، وأنجبت منه ثلاثة أطفال قبل دخوله إلسجن. وقد ساندت ويني زوجها مساندة قل نظيرها وخاضت النضال السياسي من أجله وتعرضت للسجن والملاحقة والتوقيف، وكانت تزوره في أجمل هيئة وأفضلها لترفع من معنوياته خلال سجنه الطويل.

 

الحريه:

 

كانت الدول المجاورة لجنوب أفريقيا مثل زامبيا وزيمبابوي قد نالت استقلالها وساندت النضال الجنوب الإفريقي مساندة حازمة، ووفرت نقطة انطلاق وتدريب وتمويل وتسليح لحركة آمكا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. ومع تصاعد النضال وازدياد قمع البيض للأفارقة، أخذ الرأي العام العالمي يضغط على حكوماته لمحاصرة ومقاطعة النظام العنصري واسقاطه. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي سقطت حجج الحكومة العنصرية، التي كانت تطرح نفسها أمام الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، باعتبارها مقاومة للشيوعية، متهمة نضال الوطنيين بالوقوع تحت تاثير الشيوعية. وهكذا بدأت الولايات المتحدة ودول أوروبا تفرض المقاطعة الاقتصادية على حكومة جنوب إفريقيا العنصرية وتأمر شركاتها بإغلاق فروعها في تلك الدولة. وهنا اضطر القادة العنصريون أمام تصاعد النضال الداخلي والضغط الدولي إلى الاتصال بنلسون مانديلا في سجنه، والدخول معه في مفاوضات أدت في النهاية إلى إقامة النظام الديمقراطي في جنوب أفريقيا. وخرج مانديلا من سجنه مذكراً بقول شاعرنا العظيم محمد محمود الزبيري:

 

خرجنا من السجن شم الأنوف/ كما تخرج الأسد من غابها/ نمر على شفرات السيوف/ ونأتي المنية من بابها/ وكم حية تنطوي حولنا/ فننسل من بين أنيابها.

 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي