«فقـاســـة» صحــف!

كتب
الأحد ، ١٦ ديسمبر ٢٠١٢ الساعة ٠١:٥٣ صباحاً

 

 

أخيراً كسرت الصحافة الأهلية الحاجز، وخاضت غمار الإصدار اليومي، الذي ظل محتكراً بشكل شبه كامل من قبل الحكومة، في بلد ينحصر فيه جمهور الصحف في إطار ضيق للغاية رغم أنه متنوع إلى حد ما، مع احتفاظ معظم الناشرين، وهم غالباً من الصحفيين، بذات الاشكاليات المتوارثة من التجربة الأسبوعية، خصوصاً لناحية رأس المال والبناء المؤسسي، وجودة العمل الصحفي.

فمعظم الصحف اليمنية لازالت تتأسس بمبادرات شخصية أو شراكة فردية، لتفي بالكاد مع أول إصدار بمتطلباته المشروطة من وزارة الإعلام، ولن يسعفها نجاحها المهني، في زيادة إيراداتها، وتنمية أصولها، وتحسين أوضاع العاملين فيها بالقدر الذي يحفظ استقلاليتهم، واستقلالية الصحافة بكل عام.

فرأس المال اليمني لازال جباناً بما يكفي، لعدم الاستثمار في الصحافة، كعمل تجاري مجدٍ ومربح، شريطة عدم ممارسته بعقلية انتهازية توجه الصحافة لخدمة المصالح، بفصل إدارته الصحفية عن التجارية.. بل إن رأس المال اليمني لا توجد لديه معايير واضحة للإعلان التجاري في الصحف، الذي يلبي مصالحه في الترويج، ولا يغفل في ذات الوقت التزامه في دعم الصحافة المستقلة كجزء من مسؤولية تحفظ مصالحه بشكل مباشر أو غير مباشر، باعتبار الصحافة سلطة رابعة رقيبة على أداء الحكومة وأجهزتها المختلفة.

وتلك المشكلة نجمت عن هواجس أرباب الشركات والمؤسسات التجارية، التي تشترط غالباً دعم الصحافة المرضي عنها رسمياً، سواء كانت حكومية، أو خارجة من عباءة الحكومة، أو أخرى تمارس الابتزاز أو تخضع لشروط المعلن الانتهازية، في مفارقة عجيبة يؤسف لها.

بالنسبة للصحف فقد جازفت بخوض غمار تجربة مرهقة، لا تتمتع بأساس ملائم، تعويلاً على ذائقة القارئ في دعم المعروض عليه بسعر مرتفع، إذا ما قورن بمستوى المعيشة، إذ لن يكون بمقدور قارئ مهووس بالصحافة أن يشتري بضعة صحف يومية، تتشابه غالباً أهم أخبارها الرئيسية، رغم أنها تتباين في التفاصيل، وأحياناً توجيه الأخبار، وتعويلاً آخر على دعم مؤسسات رسمية أو شركات تجارية، ربما يكون شاملاً للجميع أو موسمياً، وبالتالي يبقى عاملاً مساعداً لا أكثر..

وتبقى الصحف بمقدراتها تلك خاضعة لكل الاحتمالات الواردة، أقلها فداحة مواجهة خطر إجهاض المشروع الصحفي الطموح الذي قد يصل حد الاغلاق، وأكثرها فداحة – بنظري- البحث عن ظهر سياسي تتكئ عليه، وتعمل وفقاً لأجندته، وكحد أدنى تمارس رقابة ذاتية على محاذيره.

غياب الاستقلالية هو أكثر فداحة بالنسبة للصحافة، إذ يضرب مصداقيتها ويفقدها طابعها المهني المستقل ويحولها إلى أداة دعائية هزيلة، ولذلك يحدث أن تصنف الصحافة اليمنية في وسائل الإعلام العالمية المرموقة بأنها “صحافة مستقطبة”.

ومما يؤخذ على الصحافة اليمنية، بنسختها الالكترونية كثيرة الكم في غياب النوعية، أو تجربة اليومية الورقية الحديثة أنها اصبحت تكراراً مملاً، يعتمد غالباً على العمل المكتبي، واستقاء المعلومات بشكل متضارب دون استقصاء، ما يشوش كثيراً الرأي العام، في ظل غياب بائن لكثير من فنون العمل الصحفي كالتقارير النوعية والتحقيقات الاستقصائية، التي تتوفر لها مفاتيح كثيرة لقضايا يمكن كشف خباياها بتحقيق ميداني، يؤهل الصحافة للصدور بمضمون ثري ومؤثر.

التقيت عام 2008، بالصحفية المغربية فدوى مساط، التي تعمل حالياً في راديو سواء، على هامش ورشة عمل هناك، عرضت فيه تجربتها في التحقيقات الاستقصائية.. فدوى أنجزت في فترة وجيزة للغاية سلسلة تحقيقات نوعية، كشفت من خلالها كثيراً من التفاصيل التي تهم الرأي العام وصناع القرار لمعالجتها.. هي عملت كخادمة في أكثر من منزل لتعرف ظروف العاملات في هذه المهنة، وعائداتها، وتعامل الأسياد مع الخادمات.. ونزلت للتسول، لتترصد خفايا هذه الظاهرة التي أصبحت مهنة يقصدها كثيرون لتكتشف شبكات منظمة تستغل عشرات الأطفال والعجائز والشيوخ..

كثرة الصحف اليمنية اليومية وتنوعها ينظر إليه كمؤشر إيجابي، لا العكس، إذ سيخلق تنافساً بين الصحف لتحسين أدائها، وظروف العاملين فيها على حد سواء..

وأعتقد أن الصحف ستسعى للتميز يوماً عن آخر في تقديم مادتها الصحفية للجمهور القابل للزيادة، مع زيادة الإهتمام بتفاصيل حياته اليومية، وستتكون لديه بديهة من خلال متابعته المستمرة للصحف تمكنه من التمييز، ومعرفة الأكثر مهنية ومصداقية، خصوصاً في ظل التضارب الحاصل في الأخبار الهامة، وهذا ما يحتم على الصحافة اليومية التي أفقست كثيراً مؤخراً أن تجهد لاحترام عقل القارئ لأنه سيأتي يوم لن يكون فيه البقاء والقبول إلا لأكثر الصحف مسؤولية والتزاماً واحتراماً للرأي العام.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي