بلد « المظاريف» واليمني المهدور

كتب
الاثنين ، ٠١ اكتوبر ٢٠١٢ الساعة ٠١:١٨ صباحاً

بقلم: عبدالعزيز المجيدي -

أسوأ الزيارات التي تشعرني بتعب نفسي حقيقي، هي تلك التي أكون مضطراً معها للتوجه إلى أي مرفق حكومي، وعلى وجه الخصوص المستشفيات . ما يحدث في هذه الأماكن يجعلك تخلص إلى يقين تام أن الإنسان في هذا البلد هدف لـ«الدعس» وليس للتنمية . هناك ستلتقي وجهاً لوجه بأشكال من الفساد الذي نتحدث عنه في الصحف ووسائل الإعلام والمقايل والندوات، وستصافح بعضاً من الصور المهينة التي تشعرك بفداحة العيش في هكذا بلد حيث كلام السياسيين وخطب المسؤولين لا تصلح للعمل حتى كفقاقيع صابون!.
كنت مضطراً الاثنين الفائت للقيام بواحدة من هذه الزيارات، وقادتني الوعكة الصحية التي أصابت ابني إلى المستشفى الجمهوري بتعز. كان بهو المستشفى مزدحماً بالناس إلى حد، وعندما قصدت قسم العيادات الخارجية تبين لي أن معظم الموجودين في باحة المستشفى ليسوا المرضى، بل الأطباء ومساعدوهم، في حين كانت “ طواريد” العيادات مملوءة بالمرضى الذين ينتظرون «ملائكة الرحمة» المنهمكين بالتجول في البهو .
خطر لي أن الدوام ربما يكون قد انتهى، لكن الساعة في الهاتف كانت تشير إلى الثانية عشرة . ساعة بكاملها تفصل هؤلاء عن نهاية الدوام يقضونها في «التفرطة» خارج العيادات ،بينما يتألم المرضى على مقاعد الانتظار.
إن الأمراض بما فيها تلك التي أصبحت جزءاً من التاريخ في العالم تعمل في هذه البلاد بشراهة، يساندها الإهمال كجندي مخلص في معركة الفتك بالأرواح. لقد بدا الرجل مصدوماً لفداحة الوضع، و بعد أن أجرى مؤخراً عمليات جراحية للأطفال في مستشفى الثورة بتعز، وصف رئيس الوفد الطبي الالماني ،الأوضاع الصحية في اليمن بالمتردية للغاية.
هناك أوبئة غير معروفة، والناس مثلاً، في تعز الآن ، يصابون بالذعر لمجرد وعكة بسيطة تصيب أحدهم، فالتهديد الذي تمثله حمى « الضنك» ، يتجاوز في سرعة فتكه ما يحمله الإيدز . في غضون أيام قلائل، يمكن لهذه الحمى أن ترسلك جثة هامدة إلى المقبرة، وتجبر عائلتك على استقبال عزاء مبكر، إذ تصبح ببساطة في لمحة، مجرد ذكرى تنام في سجل الوفيات. هذا ما فعلته الحمى بالصديق الممتلئ أملاً وثورة، عمار الكناني رحمة الله تغشاه . كان عمار واحداً من أبرز الشباب الناشطين في الثورة الشبابية بتعز، عندما كانت البلد برمتها تستيقظ من أجل استعادة كرامتها المهدورة . لم نستعد كرامتنا، و تاهت “ الثورة” في دهاليز ساسة لا يهتمون للناس، وفقدنا عماراً الذي كان يستعد للتو لاستئناف دراسته العليا في الخارج . منذ سنوات وهذه الحمى تفتك بالناس بلا رحمة، لكن ما هو أفدح من المرض نفسه، لا مبالاة السلطات الصحية ولا المحافظ الذي يبدو عالقاً داخل قفازات نزاع مع أطراف سياسية بشأن تفاصيل لا تخص حياة الناس. لقد رافقتني الفاجعة بعمار وحمى الضنك، إلى المستشفى. هناك شعرت بالعجز والغضب، لحالة البرود المهيمنة على العاملين، بينما كنت أرقب الحالة السيئة لابني وبعض المرضى، فقصدت إدارة المستشفى، وكان المدير منشغلاً «بفتح المظاريف »!.
«حتى أنا لا أستطيع الدخول» قال لي مساعد المدير في غمرة انشغاله بحديث جانبي مع رفيق له. وكان واضحاً أن الجميع يتبرأ بصورة حاسمة من قََسم “ابقراط” ، وقَسم باسندوة أيضاً!.
« المظاريف » والمناقصات والصفقات، في هذه البلاد بالطبع،هي جوهر الصراع والسباق بين أغلب الساسة والمسؤولين بمختلف انتماءاتهم . كان ذلك قبل «الثورة» وتعزز معها بالتوافق والشراكة الكاملة !. لكن، ما هي المهمة الخطيرة لهذه المظاريف ؟ إذا كانت مناقصة لبناء قسم في المستشفى أو جلب معدات، فمن أجل من تنفق كل هذه الأموال، في حين يبقى المستفيد المفترض وهم الناس آخر شيء نفكر به ؟.
يحدث هذا بصورة أو أخرى في كل مرافق الدولة، وبهذه الطريقة تدار المؤسسات والمرافق الحكومية في اليمن: الموظفون يثقون بأنهم في حل من المساءلة، والمدير كذلك، أما الوزير المعني ورئيس الحكومة فالمستحيل بعينه. لقد تخلى الناس عن قيمهم الشخصية النبيلة، وشجعهم الفساد الممنهج طيلة عقود، على التفلت من مسؤولياتهم في جهاز الخدمة، وبدلاً من المحاسبة، أصبح الفاسدون والمقصرون يحصلون على الترقيات والمزايا. هذا الشكل من الأداء المدمر هو الشائع اليوم، فقد غدا التسيب واللامبالاة جزءاً أصيلاً من تعاملنا اليومي في مختلف المجالات، وأسوأ مظاهره يتجلى في المرافق المرتبطة بحياة الناس.
في الواقع ذلك لا يساوي شيئاً من مشاهد وكوارث تحدث في مجال الصحة، يواجهها المواطنون يومياً، غير أنها ملمح مهم عن فداحة ما وصلنا إليه من حالة موات لحساسيتنا الإنسانية، في وقت يحدق بنا الموت من كل صوب إما برصاص الانفلات الأمني أو بالأمراض والأوبئة التي لم تصنف بعد لدى فرقاء الضجيج السياسي ضمن قائمة الأعداء الخطرين .
في أي بلد يضع اعتباراً لأرواح الناس، تمثل الدقيقة الواحدة فارقاً بين الحياة والموت. رغم إدراكهم خطورة ذلك، يهدر الأطباء في مستشفياتنا الكثير من الوقت في “ الطورايد” بلا اكتراث، متخلين عن مسؤولياتهم الإنسانية والأخلاقية تجاه المرضى، لعله تعبير عن الضجر، الضجر من كل شيء بما في ذلك المرضى. أما المسؤولون فلا شيء يشغلهم غير “ المظاريف”.
يكون الشعور فادحاً عندما يحدث ذلك بينما تقول روزنامة التاريخ إن هناك خمسين عاماً انقضت منذ حاول يمنيون مخلصون تملكتهم الحماسة والحلم، تمهيد سبل بناء دولة تهتم للإنسان، بالقضاء على نظام موغل في التخلف. بعد كل هذا الوقت مازال المرض واحداً من ثلاثية جعلتها ثورة 26 سبتمبر هدفاً للقضاء عليها ،بالإضافة إلى الجهل والفقر. لقد اندلعت ثورة ثانية ومازالت أضلاع المثلث نفسه ضاربة جذورها في البلاد، وبصورة أفدح خسرنا معها إنسانيتنا!.
الاحتفاء بالإنسان في اليمن لا يتجاوز الهذيان الكلامي للأحزاب والحكومة والنخب ، لذلك كانت أول صفقة اتفق عليها الفرقاء عندما وقعوا على المبادرة الخليجية «منح الحصانة» لقتلة شباب الثورة، مقابل تقاسم الحكم مع النظام الذي ثارت ضده البلاد وهي تحاول استعادة إنسانها المفقود. ببساطة، كانت أرواح الناس ودماؤهم أول شيء يتم التضحية به على طاولة السياسة. كان يمكن أن تكون صفقة ثمينة لو كانت ستقود البلاد إلى عهد جديد ومستقبل لا تتحكم به ذات القوى التي خرج اليمنيون للإطاحة بها ، لكنها لم تنتج شيئاً حتى الآن إلا تدوير الصراع بين الأطراف نفسها مع تعديل طفيف على اللعبة.
في هذه البلاد، لن يتغير الحال أبداً على النحو المنشود ما لم تغدو كرامة الإنسان اليمني وحياته قيمة مقدسة ومركزية في ثقافة وسلوك النخب والحكومات، وغير قابلة للمساومة. بمعنى آخر قيمة غير قابلة للدهس تحت عجلات الساسة في حفلات الإهدار المستمرة للناس والبلد.
[email protected]

الجمهورية 

الحجر الصحفي في زمن الحوثي