اليمن.. صناعة «تخريب المستقبل»

كتب
الاربعاء ، ١٢ سبتمبر ٢٠١٢ الساعة ٠٦:٣٥ مساءً

د.احمد يوسف احمد -

منذ ما يزيد قليلاً على ثلث القرن نظر إليه باعتباره «مُخَلِّص» اليمن. كان الوحيد الذي أقدم على قبول تولي منصب رئاسة الجمهورية في 1978 في أجواء من عدم الاستقرار لم يعرف اليمن لها مثيلاً ربما طيلة القرن العشرين، ففي ذلك الوقت اغتيل على التوالي وفي شهور قليلة رئيسان للجمهورية أولهما المقدم إبراهيم الحمدي الذي مثل أملاً لليمن في دولة حديثة غير فاسدة، وثانيهما المقدم أحمد الغاشمي الذي كانت تحيط به علامات استفهام كثيرة. وبدا أن منصب رئاسة الجمهورية آنذاك هو أقصر الطرق للموت، وتذهب رواية غير مؤكدة إلى أن القاضي عبد الكريم العرشي نائب رئيس الجمهورية آنذاك قد قبل أن يتولى الرئاسة بشروط، لكن زوجته وبناته احتجزنه في البيت حفاظاً على حياته. رُشح الرائد علي عبدالله صالح آنذاك من البعض لتولي المنصب على أساس ما عُرِف عنه من حسم عسكري في قمع أعمال التمرد، فيكون بذلك هو الرجل المناسب للمرحلة، وقبل صالح التحدي.
كشف الرجل بالتدريج عن موهبة سياسية بالإضافة إلى موهبته العسكرية، فجمع القوى السياسية المتناحرة في تنظيم واحد (المؤتمر الشعبي العام) يحكمه ميثاق وطني شاركت هذه القوى في مناقشته وإقراره، وبدأ اليمن يعرف طريق الاستقرار والتنمية، ثم حاول أن يحقق الوحدة بين شطري اليمن في الشمال والجنوب على صعوبة هذه المحاولة بسبب التناقض الكامل بين النظام التقليدي في الشمال والماركسي-اللينيني في الجنوب، لكنه استغل فرصة المتغيرات الدولية في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي الناجمة عن سياسات الزعيم السوفييتي جورباتشوف وتخليه عن النظم الموالية له، واستطاع صالح بموقف مماثل من النخبة الجنوبية الحاكمة أن يحقق الوحدة التي مثلت بحق إنجازاً تاريخياً بالنسبة لليمن، وعندما بدأت القلاقل تهدد استمرار الوحدة، وبالذات بسبب عدم رضا النخبة الجنوبية عن ممارساته قاد باقتدار في اللحظة المناسبة حرباً ضد القوات الجنوبية الانفصالية.
لكن هذا الانتصار الأخير كان فيما يبدو علامة على وصول مسيرته إلى نقطة الذروة التي بدأ الانحدار بعدها. تمثل الانحدار أولاً في ممارساته في الجنوب بعد حرب الانفصال، وهي ممارسات جعلت أبناءه يشعرون أنهم سباياً لا مواطنون، ومن هنا بدأت بذرة «الحراك الجنوبي» الذي نشأ كحركة مطلبية ثم تحول بفعل التجاهل والقمع إلى المناداة بالانفصال. ولعب طول البقاء في السلطة دوره في تحول الحاكم من صفوف الشعب إلى مراتب الآلهة. وتكفلت عائدات النفط الذي بدأ استغلاله تجارياً في ثمانينات القرن الماضي بتدعيم أسس الفساد في الدولة بعد أن أصبح «الرئيس» قادراً على أن يمنح ويمنع، وعمل على تأمين نظامه بتعيين إخوته غير الأشقاء قادة لأسلحة ووحدات الجيش اليمني، ثم تعيين ابنه قائداً للحرس الجمهوري خير وحدات الجيش اليمني تسليحاً وتدريباً، وكذلك «بشراء» ولاء زعماء قبائل بعينها، وبدأ نظامه يستكمل مقومات النظام الديكتاتوري الاستبدادي وما يصاحب ذلك من بطش وقمع ومحاكمات غير عادلة للمعارضين.
على هذه الخلفية بدأ التململ الشعبي من نظامه يظهر إلى العلن ثم يشتد عوده إلى أن انتصرت ثورة يناير المصرية، وأجبرت الرئيس المصري السابق على التنحي ومن قبلها الثورة التونسية التي تمثلت أول نجاحاتها في إجبار الرئيس التونسي على الهروب في غضون أيام من اشتعال الثورة، وفي هذه الأجواء تفجرت ثورة شباب اليمن وأخذت في التصاعد، وانشقت إحدى فرق الجيش بقيادة الأخ القوي لصالح اللواء علي محسن الأحمر تأييداً للثورة، ناهيك عن تأييد عديد من القبائل لها، غير أنها لم تنجح في إسقاط النظام بسبب قاعدته القوية المتمثلة في معظم وحدات القوات المسلحة وبالذات الحرس الجمهوري، وكذلك في القبائل الموالية له أو التي اشترى ولاءها.
ولأن اليمن رقم مهم في معادلة الأمن والاستقرار في الجزيرة والخليج فقد سارعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى تقديم مبادرة لحقن الدماء والوصول إلى تسوية كان أهم بنودها تخلي رئيس الجمهورية عن سلطاته لنائبه، وتكوين حكومة وحدة وطنية مناصفة بين القوى الموالية له وقوى المعارضة، مع منح صالح حصانة قضائية هو وجميع من عملوا معه أثناء حكمه، ثم الانطلاق بعد ذلك في إعادة بناء مؤسسات النظام وفقاً لما جاء في المبادرة.
لكن المبادرة لم تنص على عدم اشتغاله بالسياسة أو على ضرورة مغادرته اليمن، وبالتالي بدأ الرجل الذي ماطل طويلاً في قبول فكرة تخليه عن الرئاسة يهيئ لنفسه دوراً جديداً، فحضر دون دعوة مراسم تسليم الرئاسة للرئيس الجديد وبدأ يتصرف باعتباره زعيماً لحزب «المؤتمر الشعبي العام»، وفي هذا الإطار ألقى في الثالث من سبتمبر خطاباً أمام الآلاف من قيادات حزبه بمناسبة مرور ثلاثين سنة على تأسيس المؤتمر شن فيه هجوماً لاذعاً على حكومة الوفاق الوطني، ووصفها «بالفاشلة»، وبأنها «غير قادرة على حفظ الأمن والاستقرار، ولم تقدم شيئاً إلى المواطنين خلال الأشهر الثمانية الماضية»، ودعاها إلى الاستقالة، وحذر من مساعي تدمير الجيش اليمني عبر الهيكلة التي تقوم بها «اللجنة» (المناط بها تحويل الجيش اليمني إلى جيش وطني بدلاً من دوره كجيشٍ موالٍ لفرد).
وكان رئيس الحكومة المناضل محمد باسندوة قد اشتكى في مقالتين مهمتين نشرهما في صحيفة «الوطن» السعودية من أن «بقايا النظام السابق غدت أكثر جرأة في الإسفار عن نواياها الحقيقية، قاطعة الشك باليقين بأنها عازمة على استعادة السيطرة على البلد مرة أخرى ضاربة عرض الحائط بالالتزامات الملقاة عليها وفقاً للمبادرة»، وعدد «باسندوة» المؤشرات الدالة على ما سبق بادئاً بالتمرد الواضح على القرارات والتعليمات العسكرية والأمنية الصادرة عن الرئيس عبد ربه منصور، ومحاولة تفريغها من المحتوى، والحيلولة دون تنفيذها (كانت وحدات من الحرس الجمهوري تؤمن الاحتفال الذي ألقى فيه صالح خطابه السابق)، وعدد بعدها باسندوة تسعة مؤشرات أخرى.
ثار شباب الثورة على خطاب صالح وما ورد فيه، ودعت لجنتهم التنظيمية إلى مظاهرة «مليونية» في اليوم التالي للمطالبة برفع الحصانة القضائية عن صالح، ومحاكمة قتلة المتظاهرين السلميين، وإقالة نجله من قيادة الحرس الجمهوري، لكن الرجل لم تهتز له شعرة واحدة، بل لقد أعلن مصدر إعلامي في مكتبه أن «الرئيس» لا ينوي مغادرة اليمن لإجراء فحوصات طبية أو لغيرها من الأسباب، وأكد المصدر أن بقاء صالح في اليمن خلال هذه المرحلة أمر ضروري.
منذ أكثر من ثلث قرن كان الرجل أملاً لليمن في الخروج من عثرته، والآن يلعب دوره باقتدار كخطر داهم على مستقبله، ومن شأن نجاحه لا قدر الله أن يصفي «نصف الثورة» الباقي في اليمن. ويتحمل شباب الثورة مسؤولية خاصة في هذا الصدد ليس من خلال التظاهرات والمليونيات، فالرجل بدوره له مؤيديه، وإنما عن طريق نضال سياسي دؤوب يستطيعون من خلاله أن يعيدوا رسم خريطة المستقبل في اليمن.
«الاتحاد الإماراتية»

الحجر الصحفي في زمن الحوثي