كلمة للتاريخ

كتب
الخميس ، ٠٩ فبراير ٢٠١٢ الساعة ١٢:٣٢ صباحاً
 بقلم/ الدكتور/ياسين سعيد نعمان  [caption id="attachment_11294" align="alignleft" width="448" caption="دكتور / ياسين سعيد نعمان"]دكتور / ياسين سعيد نعمان[/caption]
يجب أن نوسع مساحة قراءة المشهد بدلا من اختزاله في جزء [ شهداء وقتلة] من موضوعه الكبير كي يصبح للتضحية دلالتها العظيمة"
_ 1_ 
 
الفكرة الثورية لا يجب أن تنتصر بالعنف
لم يدرك نظام علي صالح أن ما يسمى «الانتصار» الذي حققه في حرب 1994 على الجنوب كان بداية نهايته، تماما مثلما كان هزيمة للوحدة السلمية الطوعية. وكثير من الانتصارات في حروب الأمم، قديمها وحديثها، كانت بمثابة نقطة تحول نحو الهزيمة النهائية في مسار المنتصر. ما لم تنضبط الثورات بالقيم التي تميزها عن الخصم الذي ثارت عليه فإن عنفوانها قد يقودها إلى طريق العنف واستخدام نفس أدوات ذلك الخصم بما في ذلك ثقافته وخطابه الحروب تضخم الأشخاص على حساب «الفكرة» التي يحاربون، أو يدعون، أنهم يحاربون من أجلها. تصغر «الفكرة»، بل وتتلاشى، وتتضخم الشخصية. وفي الغالب تتلاشى «الفكرة» بتغيير جوهرها وخاصة الأفكار الكبرى. فمثل هذه الأفكار تتناقض من حيث مضمونها الأخلاقي مع الحروب، ولا تعد الحروب أدوات ملائمة لتحقيقها أيا كانت المبررات والأسباب. فالفكرة الكبرى ذات البعد الإنساني إذا لم تمتلك مقومات الإقناع والتغيير من داخلها وبأدواتها الذاتية فإن فرضها بالقوة العسكرية يصبح محكوما بإشكاليات النتائج التي تتمخض عن هذه القوة، وهي إشكاليات تتجذر في بنية الوضع العام الذي تولده الحرب وتتجه به نحو الاضطراب وعدم الاستقرار. أبرز إشكالية من بين هذه الإشكاليات هي الالتباس الذي يصيب الشخصية المحورية في الحرب أو ما يعرف بالقائد أو الزعيم والتي عبرنا عنها بتضخم الشخصية على حساب الفكرة. فهذا الالتباس ليس مجرد حالة وجدانية تتلبس الشخص وتعيد تكوينه بمزاج البيئة الجديدة المحيطة به، ولكنه تعبير عن تغيرات جوهرية في الفضاءات التي تولدها الحروب.. وأقصد بها الفضاءات التي تظل دانات المدافع وأزيز الرصاص وجثث القتلى وصور الدمار تملأ مساحتها داخل الوعي وفي الوجود على السواء. لا تبدو المسألة منتجا جانبيا في تجلياتها التي تجسدها نتائج الحروب في تلك الصور المادية والمعنوية المأساوية، بل يتعين قراءة أبعادها فيما تسفر عنه أحداث الحياة من تشكل لثنائيات ومتقابلات عميقة المحتوى مثل النصر والهزيمة، الثأر والتسامح، الاستكانة والثورة، التطرف والاعتدال، البناء والخراب..إلخ. وما ينطبق على الأفراد والدول ينطبق على الحركات الشعبية والثورات والعمليات الاجتماعية المصاحبة. وهذه ما لم تنضبط للقيم التي تميزها عن «الخصم» الذي ثارت عليه فإن عنفوانها قد يقودها إلى طريق العنف واستخدام نفس أدوات ذلك الخصم بما في ذلك ثقافته وخطابه. إن أدوات العنف لا تتميز عن بعضها فهي بطبيعتها مرذولة ويتسم من يلجأ إليها بصفاتها التي غالبا ما تكون غاشمة ومثقلة ببلادة ضخمة يصعب على أصحابها تحديد خط السير خارج دائرة الفوضى التي يثيرها العنف ويبعث فيها أردأ نماذج السلوك البشري الذي لا يكون مؤهلا لشيء سوى التخريب وهدر الفرص. بدلاً من أن يبعث الوضع الجديد في بعض القوى قيمة ثورية، أخذت قيم الصراعات القديمة وآثارها البائسة تنخر عميقاً داخل تاريخ إقصائي أبله أعاد إنتاج نفسه في صور جديدة في الصراع ورفض الآخر والاحتيال على المسار الثوري بالاعتصام داخل تهويمات سياسية انعزالية وخنادق أيديولوجيات متعصبة عفى عليها الزمن وما يعد كارثيا هنا هو أن المزاج الثوري بطبيعته يعج بعناصر العنف مما يجعله مؤهلا وميالا لممارسته ما لم يتمكن الحامل السياسي والثقافي للثورة من تكوين منظومة ضبط قيمية قوية في ميدان الفعل الثوري وبين الجماهير وعلى مستوى رفيع من الثقة والتفاهم بين أطراف هذه العملية تمنع المغامرة بصورها المختلفة وتحد من نزعات التفرد والانتقام. والميدان الثوري دائما ما يكون قابلا لخلق أكثر من «زعيم»، ولأن هذه الزعامات تصنع على عجل ووفقا لحاجة اللحظة الثورية، فإن كثيرا من الزعامات التي تتوالد هنا غالبا ما تصاب بداء التماهي مع الخصم الذي ثاروا عليه وخاصة أولئك الذين يرون في الثورة طريقا للخلاص الشخصي من وضع اجتماعي معين. إن صناعة الزعامات على عجل هي أخطر ما تتعرض له الثورات حيث تصبح الفواتير التي يجب على الثورة أن تدفعها ضخمة لدرجة الإرهاق، وأهم ما تتمخض عنه أعباء هذه الفواتير هي أن تغدو الثورة على المحك بين أن تمضي في اجتثاث قيم نظام الحكم الذي أفسد المجتمع وبناء النظام الثوري البديل، أو مواصلة إنتاج هذه القيم وتقليده في أسوأ صورة يمكن أن تؤول إليها أي ثورة تفقد ضوابطها عند محطة معينة في مسارها الطويل. لقد رأينا في كثير من التجارب التاريخية كيف آلت الثورات العربية في طبعتها القديمة إلى تلك النهايات المأساوية بوقوعها في فخ التماهي مع الأنظمة التي ثارت عليها حتى أنها أصبحت في الغالب نسخا مكرورة منها. ولا يمكن أن نعيد هذه المسألة إلى الصدفة، بل لا بد من البحث عن أسبابها في طبيعة القوى التي حملت الثورة منذ البداية وأدواتها المستخدمة. هذه القوى، بما آلت إليه، كانت ذات طابع نخبوي لم تسمح بتشكل الثقافة السياسية للمجتمع بعيدا عن رقابتها وتدخلها بشروط غالبا ما حاصرت المسار الثوري بقوائم من الممنوعات والمحرمات والخطوط الحمراء.. وهي القوائم التي كان هدفها في الأساس حماية نخب الحكم من الثورات المصادرة. غير أنه وإن كانت هذه النخب قد حمت نفسها من احتمالات إعادة إنتاج الثورة وذلك بالتحكم في مسارات الحياة السياسية اللاحقة بوسائط قمعية، إلا أنها لم تستطع أن تحمي نفسها من نزعة إنتاج الزعيم الأوحد بما رافقها من صراعات وتصفيات.. وهكذا فقد كان إنتاج الزعيم الأوحد على حساب الثورة، سواء من داخلها أو من خارجها، هي السمة الغالبة التي آلت إليها هذه الثورات. والثورة التي آلت إلى قبضة الزعيم لا بد من إعادة بنائها في الوعي على أنها لا تشبه الثورات الحقيقية وأن خللا ما جعلها عرضة لمثل هذا الاغتصاب. من المهم أن نلاحظ هنا أن العنف والحروب قد تدخلا في محطات معينة لتعطيل ما تبقى من عناصر ثورية لتخلو الطريق للمنتفعين والفاسدين للتسلل إلى مركز القرار، ومن ثم، استكمال حلقات السيطرة على السلطة من خلال ملء الفضاءات الثورية بقيم نقيضة. والفكرة الثورية لا يصح فرضها بالقوة ما لم تنشأ بالمقابل قوة مناهضة تقاومها بالعنف والحروب. المقصود هنا هو أن الفكرة الثورية لا يجب أن تنتصر بالعنف والعدوان، فقد تنتصر لفترة معينة ولكنها لن تلبث أن تنتكس بسبب التحلل السريع للعناصر الثورية داخل بيئة «العنف» التي تتضخم فيها ثقافة طاردة بطبيعتها لقيم الحرية والعدل والتعايش والتسامح واحترام الآخر، أي القيم الثورية الحقيقية بالمعنى الذي استقرت عليه بعد تجارب طويلة من الجدل والصراع. والقوى التي تأخذ الثورة، أي ثورة، إلى طريق العنف والانتقام لا بد أن تتضخم عند منتسبيها الذات على حساب الفكرة الثورية، ويستحيل عليها أن تستعيد التوازن بين المكونات السياسية والثقافية والأخلاقية للثورة في صلتها ب «المكون الدخيل» المتمثل في العنف والعدوان لأن هذا الأخير لا يلبث أن يعيد بناء المكونات كلها لصالحه وبشروطه بحيث يصبح تمجيد القوة والعنف شرطا ضروريا للانتماء الثوري. وفي هذا السياق تصبح القوة والمغامرة والعنف هي الصفات المقبولة ثوريا، ويغدو أصحابها هم الثوريون. ويسجل التاريخ حالات مشابهة كثيرة، ويهمنا أن نستدل منها بما أسفر عنه العنف من نتائج كارثية على مسار هذه الثورات فيما بعد وعلاقة النخب الثورية ببعضها، وكيف أن هذه النخب استسلمت جميعا للقرار المغامر وما تمخض عنه من تصفيات «ثورية» واختزال الجميع في «واحد». وبطبيعة الحال فإن الثورة يجب أن ترسخ قيمها بالتربية والحوار والتفاهم واحترام الاختلاف. والشعوب التي أنهكها الاستبداد دائما ما تكون عرضة للخديعة التي يمارسها الصخب الثوري المخادع والذي ينقشع في نهاية المطاف عن خواء يملأه الانتهازيون والمتسلقون والمغامرون والمتعيشون وكذا كل من يركب قاربا ثوريا ولكن ليبحر عليه إلى شاطئ مختلف عن الشاطئ الذي يجب أن ترسو فيه ثورة الشعب.
_ 2_  الثورة اليمنية في طبعتها الجديدة 
التجربة الثورية اليمنية في طبعتها الجديدة هي نموذج للثورات التي استطاعت أن تتخلص من فخ العنف على الرغم من توفر شروطه التي تصدرتها عدوانية النظام وهمجية ممارسته للعنف بتلك الطريقة التي استهدفت في الأساس توفير المناخ لجر الجميع إلى الحرب الأهلية. وكل المحاولات التي بذلها النظام لجر الثورة إلى العنف اصطدمت بقوة ونزاهة القناعة عند أغلبية الثوار بأهمية وضرورة التمسك بسلمية الثورة. غير أنه لا بد من الإشارة هنا إلى أن العنف الذي مارسه النظام كان قد ولد قدرا من رد الفعل انعكس في جزء من الخطاب الذي حمله بعض ممن ينتسبون إلى صف الثورة وهو ما هدد بوضع الثورة بين فكي كماشة العنف من طرفين متقابلين أخذ كل طرف منهما في مرحلة معينة يوفر للطرف الآخر الشروط الضرورية للعنف والعنف المضاد. ولما كان النظام هو المستفيد في الأساس من العنف فقد وجد في هذا الخطاب مبتغاه لتبرير القتل والقمع اللذين مارسهما ضد الثورة السلمية. ربما كان سبب هذا الخطاب هو الحماس عند البعض، وربما كان البعض قد استدرج إلى فخ الخطاب الناري كرد فعل للعنف الذي مارسه النظام، والذي برز في أسوأ صوره في جمعة الكرامة يوم 18 مارس 2011والذي تزلزل النظام على إثره مما أجبر رئيسه حينها على تقديم مبادرته بنقل السلطة وطلب الحصانة إلى السفير الأمريكي، وأخيرا ربما أن بعضا ممن لبسوا رداء الثورية في لحظة معينة ولأسباب لا صلة لها بالثورة قد أدوا دورهم المرسوم بعناية لإحداث خلل بين الطابع السلمي للثورة وهذا الخطاب الصاخب المنسوب إليها ظلما وعدوانا وذلك بهدف إرباك مسارها، لا سيما وأن هذا النوع الأخير من الخطاب كان كل شغله هو التشكيك في المسار السلمي والسياسي للثورة وهو المسار الذي أحرج النظام وضيق عليه الخناق وكشف جوهره القمعي بعد أن نزع عنه تلك الغلالة التي ظل يناور بها في مسار العمل السلمي متحينا رفض القوى السياسية لهذا المسار ليكسب بذلك رضى القوى الدولية، أو صمتها على الأقل عند ممارسة العنف والقمع. لقد استطاع المسار السياسي أن يحمي الثورة بأن جسد بالملموس طابعها السلمي وكشف بالمقابل الطابع القمعي للنظام وهو ما كان له أثره البالغ على الموقف الدولي في الضغط على النظام للسير في طريق نقل السلطة والتغيير بموجب المرجعية المتمثلة في المبادرة الخليجية والآلية المكملة لها. لقد وضعت الثورة في فوهة كماشة العنف والذي لم يكن له غير معادل موضوعي واحد وهو «الحرب الأهلية». لكن الطابع السلمي للثورة وتمسك الثوار بقيم الثورة السلمية وضعهم أمام مسئوليتهم التاريخية بالوصول بالثورة إلى غاياتها سلميا. ولم تكن المسألة بطبيعة الحال خالية من المصاعب وخاصة حينما كان النظام يمارس العنف والقتل والقمع مما يرفع الاحتقان بهذه الممارسات إلى درجة يصبح معها الحديث عن المسار السياسي «معيبا»، ويبرز في مثل هذه الحالات الخطاب الرافض والمحرض الذي يتهم المسار السياسي بالخيانة والتفريط وسرقة الثورة..الخ وهو الخطاب الذي كان يحتاج إليه النظام كلما حوصر ليخرج من المأزق. وغالبا ما كان يجري توظيف ذلك لخلق حالة من الارتباك وسط القوى الثورية، وكأن المهمة الأساسية لهذا الخطاب هي إشعال الحرائق لتمرير مشاريع تصفية الثورة ولكن بلغة ثورية صاخبة ومشاكسة. ويكفينا فقط مثالين للتدليل على سطحية وغوغائية هذا الخطاب المتبادل من طرفي كماشة التطرف.الأول ويأتي من أنصار صالح وهو يرفض الحصانة بالقول إن صالح لا يحتاج إلى هذا القانون وأن من يحتاجون له هم المجرمون، في الوقت الذي يعرفون فيه أن المبادرة التي وقعوا عليها مع الرئيس تتضمن بند الضمانات كشرط رئيسي للتخلي عن السلطة، وأنهم عندما تم اقتراح صياغة القانون على أساس تحقيق المصالحة الوطنية وبفكرة الاستناد على ما يعرف بالعدالة الانتقالية، أصروا على أن تكون الحصانة للرئيس وعائلته وكل من عملوا معه على نحو مطلق. أما الثاني فيأتي من داخل صفوف الثورة يرفض الحصانة ويطالب بمحاكمة صالح وكأنه قد أصبح في قبضتهم، ودون أن يقولوا شيئا عن كيفية تحقيق ذلك ودون أن يكون تحقيقه عمليا مدعاة لحرب لن تبقي يمناً تبنيه هذه الثورة في حالة انتصارها. الثورة التي تقبل السكون داخل هذه الكماشة ولا تعمل جديا وبرؤية استراتيجية في أن تجد لنفسها طريقا خارجها تصل عبره إلى غايتها ستتحول إلى ظاهرة صوتية كتلك التي يمارسها بعض المتنطعين بصورة دينكشوتية تقدم الدليل تلو الدليل على الالتباس الخطير الذي يضخم الذات عند هؤلاء في هذه المرحلة المبكرة من تكون جنين الزعامة في صورته الأميبية.. يتجسد ذلك في خطاب ظاهره ثوري وباطنه الخديعة. كم هي مخيفة الأصوات الصاخبة التي لا سقف لها.. أصحاب هذه الأصوات لا يستقرون على حال، وفي نهاية المطاف يستقرون في حضن الخصم الذي يثورون عليه.. يتحكم فيهم الغضب والحنق تجاه كل شيء، وتتملكهم الحماقة التي تجعلهم يرون كل شيء خاطئا طالما أنهم لا يتصدرون المشهد ولا يتحكمون به. كثير من الثورات عانت من هذه الظاهرة باعتبارها العاهة المخادعة التي لا تكتشف إلا وقد دمرت الثورات، وتسجل كثير من التجارب الثورية أن هذه العاهة كانت السبب الأساسي فيما أصابها من انتكاسات والسؤال هو: هل كانت هناك إمكانية لطريق آخر تنتصر فيه الثورة، أو طريق آخر للنظام يهزم فيه الثورة؟ هذا السؤال لا يصعب الرد عليه بعد سنة من الثورة ومرورها بمحطات مختلفة تكفي للتدليل على أن الثورة قد أنجزت مهمتها الأساسية في تحقيق المرحلة الأهم من عملية التغيير، وهي مرحلة ما كان يمكن لها أن تتحقق بدون تلك التضحيات التي قدمها شباب الثورة.. وإذا كانت هذه العملية قد توقفت مؤقتا عند هذا المستوى بسبب عدد من العوامل التي أسهمت في جعل عملية التغيير النهائي تصل إلى مفترق طريقين: إما مواصلة السير في طريق الخيار السلمي، وهو في الأساس خيار الثورة وطريقها منذ البداية، أو الاستجابة لخيار النظام وهو طريق العنف والحرب والذي كان قد حضّر له ولكنه لا يريد أن يتحمل مسئولية الذهاب إليه بمفرده فقد كان يعمل على توريط قوى أخرى داخل الثورة بالاستجابة لخياره عبر الانزلاق نحو حرب لا يبدو فيها أنه مسئول عنها. ولم يكن أمام قوى الثورة من خيار سوى التمسك بالخيار السلمي، وهو الخيار الصحيح. لكن الخيار السلمي، كان يعني فيما يعنيه السير في طريق التسوية السياسية التي ستنجز عملية التغيير والتحول. ولا بد هنا من قراءة مصاحبة لهذا الخيار للواقع الموضوعي المحيط بالعملية الثورية باستعراض موجز لعدد من العوامل ذات القيمة الخاصة المؤثرة في هذا الواقع. العامل الأول: من المهم أن لا نتجاهل الطريقة التي رسمت بها الثورة على الأرض في ظل موازين قوة أخذت تنهك البلاد والعباد وتنتج كل يوم عوامل انهيار الدولة دون أن تغير من طبيعة النظام، حتى بعد تفككه، والذي لم يكن في الأساس نظاما مؤسسيا قابلا للتأثر بانهيار مؤسساته وتوقفها عن العمل. كان نظاما يقوم على قاعدة النفوذ الشخصي لصالح، فلم يسمح للمؤسسات التي أنشأها على نحو ديكوري أن تنازعه الصلاحيات المطلقة التي خص بها نفسه في المجرى العام لحكمه البلاد طوال كل هذه السنين. انهيار البلاد لن يكون لمصلحة الثورة بينما نجد أن النظام لم يعد يهمه أن تتفكك الدولة أو تنهار، بالعكس كان هذا هو ما يسعى إليه بحساب أن هذا التفكك يضعف من زخم الثورة ببقاء قوى سياسية واجتماعية خارج صفوفها لصالح مشروعات أخرى تنسجم في غاياتها مع أهداف مشروعه. ولذلك لا يستبعد أنه شجع هذه النزعة التفكيكية بوسائل عديدة، الأمر الذي جعله يبدو في وضع مريح حينما يتعلق الأمر بعنصر الزمن. العامل الثاني: هو أن سنوات الصراع والحروب قد أفرزت قوى متنافرة ومتصارعة، البعض منها وجد نفسه معا في خندق واحد تحت راية الثورة، وبدلا من أن يبعث فيهم هذا الوضع الجديد قيمه الثورية بما تستلزمه من رص الصفوف لتعبئة الجميع لتحقيق الهدف الذي جمعتهم الثورة من أجله أخذت قيم الصراعات القديمة ومخلفاتها وآثارها البائسة تنخر عميقا داخل تاريخ إقصائي أبله أعاد إنتاج نفسه في صور جديدة من الصراع ورفض الآخر والاحتيال على المسار الثوري بالاعتصام داخل تهويمات سياسية انعزالية وخنادق أيديولوجيات متعصبة عفى عليها الزمن وكانت أحد روافد الاستبداد في هذا البلد بدون منازع. لقد طوحت هذه الصراعات، بما فيها المواجهات المسلحة المؤسفة التي شهدتها الجوف وصعدة وحجة ومناطق أخرى، وكذا الحسابات الخرقاء، بجزء من النضال الثوري نحو مسارب امتصت بالنتيجة قدرا من تلك الطاقة المتدفقة عند شباب الثورة وأقامت قدرا من الحواجز النفسية بعد أن كانت الثورة قد فتحت الساحات على طول البلاد وعرضها بدون حواجز لكل الثوار على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم. العامل الثالث: راهن نظام صالح على إنهاك الشعب. ففي الوقت الذي تمترس فيه وراء السلاح الذي كدسه من موارد البلاد وعلى حساب قوت الشعب، مع سيطرة كاملة على الموارد المالية وإنفاقها للأغراض التي تمكنه من التحكم في ميزان القوة على الأرض وذلك من خلال الإنفاق ببذخ لا مثيل له على الأنصار، فقد أخذ يرهق الشعب اقتصاديا وأمنيا، وأخذت موارد البلد النفطية تنضب، والإنتاج السلعي يتدهور، والمحروقات تختفي، وطوابير غاز الطباخة تصل إلى أكثر من كيلو متر وبأسعار خيالية [تذكرت هنا ملحمة كوريا الجنوبية وغاز اليمن الفقير]، والكهرباء تنطفئ لأكثر من ثلاث وعشرين ساعة في اليوم الواحد وتسريح آلاف العمال والموظفين بسبب توقف كثير من الأنشطة الاقتصادية. العامل الرابع: هو أن المجتمع الذي تحمل مسئوليته تجاه الساحات على ذلك النحو الذي أكسب الثورة طابعها الشعبي وذلك بمدها بمتطلباتها من الغذاء والدواء والحماية أخذ يتململ ويترنح تحت وطأة المكابدة الاقتصادية والإحساس بتراجع الزخم الثوري الذي تولد بفعل ترسيم الثورة في ساحات أخذت تنعزل تدريجيا عن محيطها لدرجة بدت معها الثورة محاصرة وغير قادرة على اختراق الحواجز المحيطة بها إلا بتضحيات جسيمة كان أكثرها دموية محاولة الخروج إلى مجلس الوزراء وكذا مجزرة مسيرة يوم 18 سبتمبر2011التي صمت عنها المجتمع الدولي مبررا صمته بأن الشباب «تجاوزوا الخط المسموح به». وهنا تكمن خطورة الترسيم الذي اتخذ منه النظام مبررا لضرب المسيرات السلمية. هرعت جماعات للبحث عن حل لبعض المشكلات بصورة مستقلة عن قضية التغيير الكبرى، لنسمع تحليلات ذات طابع غرائبي مثل أن انتصار الثورة سيضر بالقضية الجنوبية مع ما رتبته هذه النزعة الغرائبية من انشقاق خطير في التلاحم الوطني الذي خلقته الثورة، ما أعاد لبقايا النظام قدراً من توازنه الداخلي العامل الخامس: في هذه الأثناء أخذت تجليات الموروث التفكيكي الذي خلفه هذا النظام تبرز على ذلك النحو الذي هرعت فيه بعض الجماعات للبحث عن حل لبعض المشكلات بصورة مستقلة عن قضية التغيير الكبرى لنسمع تحليلات ذات طابع غرائبي مثل أن انتصار الثورة سيضر بالقضية الجنوبية مع ما رتبته هذه النزعة الغرائبية من انشقاق خطير في التلاحم الوطني الذي خلقته الثورة متجاوزة الفواصل التي أنتجتها سياسات النظام الخاطئة مما أعاد لبقايا النظام قدرا من توازنه الداخلي، فالفجوات التي تحدث هنا يتسلل منها لإعادة بناء حساباته للهجوم على الثورة. العامل السادس: الانقسام الرأسي الذي حدث في النظام عملت السلطة على تجييره لصالحها محاولة تصوير الوضع على انه صراع داخلي وعملت على تسويقه بقوة داخليا وخارجيا ووظفته لتبرير العنف ضد الاحتجاجات السلمية مصورة المسألة وكأنها مواجهة بين طرفين مسلحين وكثيرا ما انطلى ذلك على الكثيرين الأمر الذي عزز احتمالات تفجر حرب بين أطراف متصارعة تقود في نهاية المطاف إلى تهميش الثورة السلمية ومحاصرتها في الساحات التي أخذت تعاني من وطأة كل هذه التداعيات. ناهيك عن أن تفجير حرب الحصبة بالعدوان على آل الأحمر كان المراد منه تحويل الأنظار عن الثورة السلمية وإكسابها طابعا عسكريا بجر بعض أطرافها إلى الحرب، وكان اختيار عنوان هذه الحرب ذا مغزى أكد إصرار النظام على تشويه الثورة وتصويرها على أنها صراع على السلطة مع حلفاء سابقين. وبالاستناد إلى ذلك يمكن القول إنه استطاع أن يربك الحالة الثورية بتوفير مادة إعلامية تعبوية مضادة للثورة وسلميتها وغاياتها النبيلة. العامل السابع: بقاء قطاع واسع من المثقفين والنخب خارج العملية الثورية، ولا نقصد بهم أولئك الذين اصطفوا مع النظام فهؤلاء قد حسموا موقفهم مع الاستبداد، وإنما أولئك الذين ظلوا ينتظرون تطور الأحداث ويفلسفون المسألة من زاوية مختلفة تبرر بقاءهم خارج العملية وذلك بإعادة بناء العملية الثورية في المخيلة الاجتماعية على أنها صراع بين أطراف النظام وظلوا يحملون على الأحزاب السياسية كجزء من هذا العمل التبريري الذي اضطلعوا به وأتقنوه إلى درجة أنه أخذ ينتج آثارا سلبية في مسار العمل الثوري. عمل بعض هؤلاء على تصغير الأحزاب والقوى السياسية والثورية بشكل عام بالمقارنة مع الرئيس الذي كثيرا ما صوروه بأنه الأكثر حنكة والأكثر قدرة وذكاء وشطارة، وأن لديه من المواهب والقدرات ما تجعله يتغلب على كل مأزق يمر به، بل إن بعضهم أمعن في الاستخفاف بقوى المعارضة ووصفها بأنها ليست سوى مجرد لعبة يتسلى بها الرئيس إلى غير ذلك من الضخ الإعلامي الذي يجعل المشهد مختزلا في شخصية سيريالية تتجسد لكل مشاهد في الهيئة التي ارتسمت في مخيلته عن الكائن الذي لا يقهر تماما مثلما استطاعت خدع الإمام أحمد أن تخلق عند عامة الناس تلك الشخصية الإشكالية الأسطورية. تكمن المشكلة في الاستبداد الذي ينتج ثقافته الممجدة للاستبداد وفكره الممالئ للظلم والفساد وكل مخرجات الاستبداد الأخرى حيث يتحول قطاع من نخب الفكر والثقافة إلى أدوات استبداد قمعية أشد خطورة من الجلادين أنفسهم وذلك لدورهم في ترويض المجتمع على قبول الاستبداد ومخرجاته والتعايش معها أولا ثم دورهم في نبذ فكرة مقاومة الاستبداد وتيئيس المجتمع من إمكانية الانتصار عليه. لقد لعب هؤلاء المثقفون دور التيئيس للجماهير بانتصار الثورة بعد أن فشلوا في إقناع المجتمع بنبذ فكرة مقاومة الاستبداد وبقائهم خارج العملية على ذلك النحو الذي سجل ظاهرة تحتاج إلى قراءة أعمق وأوسع لسبر غورها اجتماعيا وسياسيا ونفسيا. العامل الثامن: هو ما اعترى المسار السياسي من تعثر، فالمبادرة الخليجية التي شكلت المرجعية الأساسية للمسار السياسي في صيغتها المستجيبة لخيار التغيير سلميا بنقل السلطة والتمهيد للتحول الديمقراطي الجذري لم يكن أصحابها هم الحامل الفعلي لها والضاغط بقوة على الأطراف المختلفة وبالذات على النظام الذي أخذ يناور بالتوقيع متحينا الفرصة للانقضاض على المشهد بخيار الحرب وذلك لأسباب تتعلق بتعقيدات وتشابك الوضع الإقليمي على الرغم من اقتناع الجميع بأهمية وضرورة التغيير، ومما سهل للنظام التملص من أي ضغط كان قد مورس عليه بهذا القدر أو ذاك هو حادث جامع دار الرئاسة الذي استغله النظام في التصعيد العسكري والإعلامي وخلط الأوراق. ومن الممكن أن نلاحظ كيف أنهم عادوا ورموا الكرة في ملعب اليمنيين عندما أعيتهم حيل النظام ومماطلته وصرحوا أكثر من مرة أنهم مع ما يتفق عليه اليمنيون. لقد وضع هذا الموقف المبادرة في مأزق أكثر من مرة. وهذا يرد على من يقول أن المبادرة اقتحمت المسار الثوري لتغير مجراه. لقد كانت خيار الضرورة في لحظة تحول حاسمة من حياة اليمن ومشوارها الطويل غير المستقر والمهدد بالحرب في كل منعطف يتجه إليه. والقوى السياسية المعارضة تحملت مسئولية السير في هذا الطريق من منطلق إدراكها بأن هذا الخيار السلمي هو الذي سيحقق أهداف الثورة في التغيير والتحول الديمقراطي والنهوض الشامل. وهنا لابد من تسجيل ورصد أهم محطة في تاريخ الثورة وهي الصمود الأسطوري لشباب الساحات ومقاومة العنف الذي طالها وأحاط بها وخاصة في تعز وصنعاء، هذا الصمود الذي أكد أصالة الثورة وقدرتها على إنتاج ديناميات داخلية مكنتها من الاستمرار وتجاوز فخ العنف والتغلب على كثير من الصعوبات التي رافقت هذه المحطة. وبصورة مرافقة لذلك أخذ المجتمع الدولي يولي اهتماما متزايدا بالوضع في اليمن. لكن هذا الاهتمام كان يجري تكييفه مع إيقاع المبادرة دون زيادة أو نقصان من منطلق أن الإجماع الدولي الذي حظيت به المبادرة قد وضع الجميع أمام مسئولية توفير الظروف المناسبة لتنفيذ هذه المبادرة وآليتها التنفيذية التي لم تكن قد صيغت بشكل نهائي. لقد شكل موقف الأطراف اليمنية من المبادرة في نظر المجتمع الدولي معيارا لمدى استعدادهم للتمسك بالمسار السياسي والحل السلمي، وهو الأمر الذي حكم موقفهم في المحطات المختلفة حتى في أشد اللحظات حرجا جراء القمع والعنف الذي كان النظام يمارسهما.. وحتى حينما لم يكن هذا الموقف يتناسب مع شدة هذا القمع في مواطن كثيرة. ومع ذلك فإنه لا يمكن الاستهانة بجهد المجتمع الدولي في الوصول بالعملية السياسية إلى غاياتها النهائية. وعلى الرغم من أن آلية السلطة استطاعت أن تمنع اتخاذ قرار في مجلس حقوق الإنسان في جنيف في يوليه 2011 بشأن تشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم وانتهاكات النظام في ضوء زيارة البعثة الأممية في يونيه من نفس العام بحجة عدم تصعيد الموقف ضمانا لتنفيذ المبادرة إلا أن نشاط مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في هذه الفترة مع القوى السياسية كان قد أثمر رؤية مكملة لنقل لسلطة، فالعمل السياسي في هذه الفترة سار جنبا إلى جنب مع صمود الساحات، وكان أن تم نقل الوضع في اليمن إلى مجلس الأمن ليتخذ قراره الشهير رقم2014 بإجماع أعضائه في نوفمبر 2011، وبذلك تكون الثورة قد دخلت مرحلة حاسمة لم يكن أمام المجتمع الدولي من خيار سوى أن يتحمل مسئوليته على نحو جماعي يتجاوز الحسابات الخاصة بكل قطر على حدة. العامل التاسع: يتمثل في أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد بنت علاقتها مع نظام صالح على عنصر حيوي بالنسبة لها وهو مكافحة الإرهاب، وأنشأت لهذا الغرض أجهزة بإمكانيات وتجهيزات كبيرة ومهمة وحيوية حديثة تجاوزت في نشاطها اليمن إلى محيط أوسع, حيث أصبح من أولوياتها الحفاظ عليها كي لا تؤول إلى أيدٍ غير «مضمونة «.. لقد كانت هذه المسألة تؤرق الولايات المتحدة كثيرا، حتى بعد أن اكتشفت حقيقة أن نظام صالح لم يكن شريكا صادقا وموثوقا في مكافحة الإرهاب. وقامت استراتيجيتها في التعاطي مع الثورة على عنصرين: الأول وهو الاقتناع الكامل بأن صالح لم يعد صالحا للحكم وأن التغيير ونقل السلطة أصبح ضرورة ملحة لاستقرار ونهوض اليمن، أما العنصر الثاني فيتمثل بأسلوب التغيير حيث رأت في المبادرة الخليجية الطريقة المثلى للسير في عملية التغيير. وعلى هذا الطريق سارت دول الاتحاد الأوروبي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن غياب وضعف التقاليد الثورية والأساليب المنظمة للنضال الثوري السلمي قد ترك آثارا سلبية في مجرى النشاط اليومي والعلاقات ما بين قوى الثورة لم تتمكن معها من إدارة الخلافات بمنهج متناغم مع القيم الثورية التي أخذت تتوالد وتصطدم بهذا الوضع الذي أخذ جزء منه يستقطب بعوامل تتنافر موضوعيا مع حالة الانسجام الداخلي لعناصر الثورة السلمية، وكان أبرز تعبيرات ذلك التنافر كما سبق أن أشرنا هو الخطاب الصاخب الذي لم يكن في جوهره أكثر من مجرد تحريض للاستجابة لمنازلة العنف الذي كان النظام يهيئ له في صورة حرب أهلية شاملة يرى فيها خلاصا من مأزق تنفيذ المبادرة التي أعلن قبوله بها والقائمة على أساس نقل السلطة وتغيير النظام سلميا ومنح صالح ومن عملوا معه الحصانة مقابل ذلك. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الخطاب قد استهوى الكثير من الشباب، وهو الخطاب الذي غلبت عليه لغة التخوين للمسار السياسي وعلى نحو لم يكن صعبا إدراك أسبابه الحقيقية في ظروف هشاشة التلاحم الوطني بين القوى السياسية وكذا حدة الاستقطابات الإقليمية التي راح بعضها يغازل الشباب بمنطق الثورة المسلحة.
_ 3 _المشهد السياسي أوسع دائرة من الخطاب التحريضي
وفي مشهد استعصى فيه على المنطق السياسي أن يجد جسورا للتفاهم مع الاعتراضات التي يثيرها هذا المنطق كتحريض على المبادرة السلمية، كانت التعقيدات تأتي من الزاوية التي تعرض فيها صورة المشهد العام على نحو جزئي، أي شهداء وقتلة، دون استكمال للمشهد في صورته المتكاملة التي تجسدها ثورة أطاحت بنظام لم يكن أحد إلى عهد قريب يصدق أن بالإمكان الإطاحة به مها بلغت التضحيات. إن هذا العرض الجزئي للمشهد وبتلك الصورة التي جعلت الحصانة تتصدر عناصر المبادرة مع تغييب مقصود للقضية الرئيسية المتمثلة بالتغيير ونقل السلطة سهل مهمة النيل من المسار السياسي من قبل الرافضين له لأسباب تتعلق بالحالة الوجدانية المستغرقة في مشهد القتل والدم وعدوانية النظام وهي مسألة لا يمكن تجاهلها عند تقييم الموقف، لكن عندما يتعلق الأمر بمستقبل الثورة فإن المسألة تحتاج إلى توسيع دائرة المشهد لنخلص من هذا إلى نتيجتين في غاية الأهمية وهما: تأكيد الطبيعة القمعية والدموية للنظام وهذا يزكي مطلب الثورة السلمية بإسقاطه باعتباره نظاما فاقد الشرعية الشعبية بعد أن لجأ إلى العنف والقتل وسفك الدماء، وثانيا: إن نظاما بهذا المستوى من القمع لا يمكن أن يستسلم للتغيير بدون تضحيات. غير أن الوجه الآخر لهذا الخطاب لم يكن أكثر من تعبير عن مشروع مضطرب، كان خطابا غاضبا متحاملا على القوى التي سارت في هذا المسار السياسي. وبتفكيك هذا الخطاب نجده غير قادر على تقديم إجابة واضحة ومقنعة للبديل عن الخيار السياسي السلمي ويقف بالعملية في طريق مسدود لا يفضي في نهاية المطاف إلا إلى الحرب أو إلى انهيار البلاد. وفي الحالتين لن يكون المستفيد سوى مخلفات النظام المتمسكة بالسلطة بأي ثمن لأن النتيجة الوحيدة هي تفكيك البلاد وقيام مناطق متناحرة يسيطر عليها أمراء حروب. وإذا كانت مخلفات النظام لديها ما يؤهلها للتمترس في أي من هذه المناطق والسيطرة عليها ومواصلة البقاء من خلالها، إضافة إلى ما سيفرضه الانهيار من شروط البحث عن حماية الكيانات الاجتماعية هنا وهناك بقوة السلاح، ناهيك عما أوجدته الحروب السابقة للنظام وسياساته الخاطئة من أمر واقع للسيطرة الفعلية على الأرض لبعض القوى، فما الذي يا ترى ستجنيه الثورة من وضع كهذا ؟؟ إن الثورة ستكون الخاسر الأكبر في هذه العملية التي أخذ النظام يراهن فيها على الزمن ويدفع بالبلاد دفعا نحو الانهيار. إن كل المعطيات الأكثر وضوحا تشير إلى أن البلد كان يسير نحو الانهيار.. ذلك أن الطبيعة الخاصة للنظام السياسي والاجتماعي دفعت باستقطابات جهوية وطائفية وفئوية حادة، وشجع على تكريس هذه الاستقطابات بالاستناد إلى عوامل تاريخية وسياسية وثقافية وفر لها شروط التحول إلى مواجهة مع المشروع الوطني للثورة بشكل مباشر أو غير مباشر.. أي أن النظام دافع جزئيا عن نفسه في مواجهة الثورة بإعادة إنتاج البنية السياسية والاجتماعية للدولة بالاستناد إلى مخرجات هذه الاستقطابات المتمثلة في هذه المرتكزات المتناقضة موضوعيا مع الطابع الوطني للثورة. وأخذت هذه المرتكزات بما توفر لديها من دعم وتشجيع تستخف بكل جهد يسعى إلى مقاومة ورفض تفكيك الدولة وانهيارها من منطلق ينسجم مع مشروعها الخاص. لقد كانت فكرة «المجلس الوطني» مثلا كمشروع تنتظم فيه كافة القوى السياسية والاجتماعية تجسيدا عمليا لمقاومة ومحاصرة انهيار الدولة، لكن المؤسف هو أن طغيان المشروع التفكيكي كان أقوى عند البعض حيث برزت تجليات ذلك الموقف في الصيغ التبريرية التي رفض بها المشروع وهي تبريرات لا تحمل أي دلالة على أن بعض هذه القوى كانت قد حسمت أمرها على السير في طريق التغيير الحقيقي للنظام القائم، أي طريق الثورة.. فموقفها من النظام لا يتجاوز كونه خصما مؤقتا، أي إلى المستوى الذي يكون عنده جاهزا لتحقيق مشروع التفكيك... وطالما تحققت المصلحة المشتركة عند هذا المشروع فلا بد إذاً أن يكون الخصم المشترك من الآن وصاعدا هو المشروع الوطني الرافض للانهيار وللتفكيك. ولذلك نجد أن بعضا من هذه القوى عملت بكل قوة على تأجيج منطق الحرب باعتبارها الطريق المفضي إلى هذه النهاية.. بل وانتظرت ذلك وراهنت عليه للأسف، وعندما سارت الأمور في الطريق الذي اختطته الثورة منذ البداية وهو المسار السياسي السلمي لم تجد غير لغة التخوين لتبدو كمن خسر آخر أحصنة الرهان، ولكن أي رهان هذا الذي يغامر بالبلاد كلها مقابل مشروع مجهول!! لا يمكن بأي حال تجاهل هذه الحقيقة عند الرد على هذا السؤال المركب، فالحقيقة هي أن مخطط الانهيار والتفكك كان يستهوي بقايا النظام وبعض القوى الأخرى، واستطاعت قوى هذا المخطط أن تربك مسار الثورة بمحاولة جرها إلى العنف من خلال التشكيك في قدرتها على الانتصار سلميا بل وحاولت تعطيل ذلك عمليا بوسائل عديدة. لقد أدركت قوى الثورة أن أي ثورة لا يمكن أن تنجح في بلد منهار ومفكك الأوصال. ولذلك فقد تصدت بقوة لخيار القوى المناهضة للثورة الرامي إلى انهيار الدولة عبر إشعال الحرب أو تجميد الوضع في حالة من التوازن الذي يبدأ فيه مخطط التفكيك والانهيارات الجزئية والاستيلاء العسكري المنظم على بعض مناطق البلاد من قبل قوى مسلحة معروفة أو مجهولة الهوية. كان هذا هو الخيار الذي عمل النظام ومرتكزاته اللاوطنية من أجل تحقيقه بهدف هزيمة الثورة ومشروعها الوطني، خاصة بعد أن أدرك أنه قد تفكك وفقد السيطرة ولم يعد مؤهلا للحكم، ناهيك عن إدراكه أيضا أنه غير قادر على هزيمة الثورة إلا باللجوء إلى هذا الخيار [خيار شمشون] سواء بالحرب الأهلية أو بمواصلة تجفيف وتجريف الموارد الاقتصادية والمالية وتشجيع المشاريع التفكيكية وخلق بؤر صراع بالاستناد إلى قيم هذا المشروع ودعمها بالمال والسلاح وتسليم مناطق كاملة لمسلحين مجهولي الهوية وتحت رايات غريبة. لقد كان على الثورة وقواها في أشد اللحظات خطورة وحسما في تاريخ اليمن المعاصر أن تقوم بمهمة الحفاظ على تماسك البلد وعدم السماح بانهياره إلى جانب مواصلة إنجاز عملية التغيير السياسي للنظام التي قامت من أجلها. وهاتان المهمتان بطبيعة الحال مترابطتان عضويا. ولا يمكن اليوم النظر إلى عملية التغيير بمعزل عن مهمة الحفاظ على الدولة من الانهيار. اليوم وقد تحركت عجلة التغيير بصورة تبعث على الدهشة عند كل من راهن على أن الثورة في اليمن لن تنتهي سلميا لا بد لنا أن نفخر بجيل شاب تحمل عبء هذه الثورة السلمية الظافرة، ويعول عليه أن يواصل عملية التغيير وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، دولة المواطنة والعدل والمساواة والحرية. على هذا الجيل أن يدرك أنه مؤهل للعبور باليمن إلى عصر جديد بدا ذات يوم مستحيلا بسبب ما عاناه من انتكاسات متكررة لأحلامه التي حملها كثير من الرواد وصادرتها نخب فاسدة. وهو مؤهل ليس فقط لأنه قادر على تقديم التضحيات ولكن لأنه استطاع أن يلتقط اللحظة المناسبة لانتزاع اليمن من فك الاستبداد والتخلف والمصير المجهول الذي أخذ يتجه نحوه في ظل نظام حكم فشل في بناء الدولة الضامنة للاستقرار والتطور. وعلى هذا الجيل أن يعبر باليمن فوق الأيديولوجيات الجاهزة، وفوق أمراض النخب السابقة وصراعاتها وحساباتها وقناعاتها الخسرانة دون تعالي وإنما بالاستفادة من الأخطاء وفتح قنوات حية وفاعلة مع العصر والعلوم والمعرفة والفن. عليه أن يتحاور بهدوء وبعمق، ويغادر نزق النخب التي أورثت البلاد وضعا مرتبكا غير مستقرلا يصلح للتنمية ولا للبناء وإنما للصراعات والحروب ونزعات التغلب والاستهتار بالعقل والاستخفاف بالعلم والاجتهاد وتمجيد الميول المتعالية على منهج التفكير المقاوم للفكر المجهز بأدوات القمع والعقاب والتكفير. على هذا الجيل أن يعرف أنه ورث وطنا معطل الإمكانيات، تسوده نزعات التفكك ومشاريع نخب خسرت الماضي وليس لديها مانع أن تخسر الحاضر والمستقبل، وأن الاستغراق في مشاريع هذه النخب سيسرق منه المبادرة التي يتوجب عليه صياغتها بمعايير ورؤى تستند إلى روح جديدة لم تتشوه بالانكسارات التي أغرقت البلاد في تجارب سياسية عطلت السير إلى الأمام ولم تفلح سوى في فتح خط مع الماضي بكل آلامه وتعقيداته. يجب أن نوسع مساحة قراءة المشهد بدلا من اختزاله في جزء [ شهداء وقتلة] من موضوعه الكبير كي يصبح للتضحية دلالتها العظيمة. الشهداء الذين سقطوا على درب الحرية هم الذين صنعوا التغيير، ويجب أن نتذكر دائما أن الإخلاص لقضيتهم والوفاء لهم لن يقتصرا على مجرد المطالبة بمحاسبة الذين قتلوهم وعلى ذلك النحو الذي يخفي عظمة القضية التي استشهدوا من أجلها أو قيمة المنجز الذي حققه استشهادهم.. لا يجب التعامل مع هذه المسألة وكأن هؤلاء الشهداء قد قتلوا وهم يتنزهون ولم يخرجوا بقناعة وإصرار على إسقاط نظام متجذر في الحكم لأكثر من ثلاثة عقود سخرها لبناء حكم يورث للأبناء وهو لا يملك من مقومات الحكم غير الفساد والقمع والشعور بالتملك. لقد فرضوا التغيير بحبهم للاستشهاد وهو ما يعني أن هذه المسألة يجب أن تبقى حاضرة في الوعي بدلالتها التي تعني أنه من غير الصواب اختزال المعركة مع نظام تهاوى وانتهى إلى مفهوم للمحاسبة مجرد عن مضامينه التي تضع القضية في نطاق قائمة طويلة من قيم الثورة وأهدافها والتي بدون الالتزام بها في مشوار التغيير الطويل فإن الحديث عن المحاسبة سيتحول إلى مجرد انتقام ساذج يعطل الوعي بعظمة المنجز الثوري الذي استطاع لأول مرة في تاريخ البلاد أن يجعل المصالحة الوطنية جزءا من عملية ثورية شاملة محكومة بمنهج موضوعي في التفكير ومعتمدا العدالة لانتقالية كمصفاة لتخليص المجتمع مما لحق به شوائب وإساءات ومفاسد السلطات المطلقة. إن انتصار هذه الثورة، أو بتعبير الكاتب المتميز مروان الغفوري «فكرتها»، هي الفرصة الأخيرة التي تقدمها الحياة لبلد تعود أن يهدر الكثير من الفرص. وأقول الفرصة الأخيرة لأن كل المؤشرات تدل بوضوح على أن مصير نهوضه وتطوره، ناهيك عن بقائه واستمراره، مرهون بهذا الانتصار، فالتغيير بصيغته السياسية الحالية يفتح الطريق أمام الانتصار النهائي إذا ما أصغى الجميع باهتمام إلى إيقاعات الفرصة التاريخية بعيدا عن صخب الذات الذي تعود أن يشوش على النغم الجميل الذي تبعثه هذه الفرص من أعماق لها صلة بالتاريخ الأصيل لهذا البلد الذي ضيعه أهله. الفشل يعني أن يغرق في سديم التفكك والحروب والتخلف، ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يقرأ المسألة على نحو مختلف في ظل المعطيات القائمة. [والله غالب على أمره].
الحجر الصحفي في زمن الحوثي