أبوبكر السقاف

كتب
الجمعة ، ٢٢ يونيو ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٢٧ مساءً
  فتحي أبو النصر أحرجنا الدكتور عبدالله عوبل - وزير الثقافة - وهو يمنح درع وزارته للدكتور الملهم أبوبكر السقاف، بعد ديباجة طويلة ظننا أنها ستؤول إلى ما هو غير اعتيادي! وذلك في فعالية أمس لتوقيع كتاب أبوبكر السقاف؛ دفاعاً عن الحرية والإنسان الذي احتوى جملة كتابات للسقاف وعمل على تجميعها وأصدره مؤخراً منتدى الجاوي الثقافي. ولكن: ماذا يعني درع وزارة الثقافة الرديء بالله عليكم؟ عموماً: كان أقل ما يفترض بحق علم فكري ووطني وإنساني بحجم السقاف وسام الدولة بدرجة رئيس وزراء؛ تقديراً له كأستاذ تنوير ومحرر فكر وراعي جمال ومحرض على العقلانية وحرية الإرادة وانفتاح الضمير والتفكير الوطني بصوت أعلى منذ أكثر من 60 عاماً في ريادة ميادين النضال والوطنية والأداء الأكاديمي الرفيع. **** بوجدانٍ نبيلٍ وضميرٍ خلاقٍ, يتقدم التائقون اليمنيون بوطنٍ وطن. ولأنه المكابر, العصي على التدجين, والمؤمن بالحداثة، سليل الدلالة العميقة في كل الفلسفات, فإنه الرجل المخلوق من خلاصة الحرية، المعني جداً بصناعة الأمل, كما بالوعي الأصيل لا الزائف. فمنذ منتصف القرن الماضي, حين كان قائداً طلابياً في القاهرة, مازال فحواه مستمراً في ترسيخ قيم الحق والخير والجمال. وحقاً.. يبدو من الصعب أن أتصور المشهد الثقافي والسياسي اليمني, دونما طروحات الدكتور أبوبكر السقاف, التي تعيد الحقيقة المسروقة إلى نصابها, بتحد ٍ نادر؛ إذ يؤجج الهمود الذي يصيب أرواح كثيرين, حلموا بالتغيير في واقع اعتيادي أكثر من محبط, فإنه الذي يستطيع أن ينقل تلك الأرواح المهيبة إلى مصاف تحليقها من جديد, وبكل جدارة. فحيث لا يحيد السقاف عن تقديس التفكير المعرفي التقدمي النابه, موالياً للمدافعين عن الحب في أي مكانٍ, فإنه سيد الأخلاق كشرط إنساني نفتقده في هذا الزمان السيء, كما أنه داعية الفضيلة, وسادن الصدق, وشيمة الواثقين بتحقق الإنسان اليمني يوماً, وعلى أكمل وجه, مهما استمرت المكائد والإجحافات في خذلاناتها. غير أنه أيضاً, ذلك الشامخ المستقل إلا عن قضايا التنوير كما قضايا المتعبين, مشدداً وبشجاعة فارطة على الإشارة بأصابع غير مرتجفةٍ لقتلة أماني هؤلاء, حتى وإن تطلب الأمر أن يناله الخطر. في حين أنه يناصب العداء الطيب بالطبع لأولئك الإمعات أنصاف المواقف من مثقفين وسياسيين؛ لأنه “الدغري السموح” الذي تحزنه وتثيره - باتجاه تنمية فكرة التغيير - الملامح الخائفة أو الفهلوية, الملامح المرتضية أو المتواطئة, بمحصلات الحاصل الضحل سياسياً وفكرياًَ. فالسقاف الذي نشأ في أسرة زاخرة بالأدب والفكر والسياسة, لطالما قدم أجيالاً من المبدعين اليمنيين في تلك المجالات, فيما يصعب على الوهن أن يصيب روحه النوعية, على الرغم من بلوغه الخامسة والسبعين من عمر البذل السخي المعطاء. وإذ حوى رعيله كوكبة فذة اللمعان في الذاكرة اليمنية, من الصعب نسيانهم؛ إذ ارتبطوا بهموم اليمن الجديد كعمر الجاوي وعبدالله باذيب وخالد فضل منصور وعبدالله البردوني ومحمد علي الشهاري وعبدالله حسن العالم وزين السقاف وسيف أحمد حيدر وعبدالباري طاهر وإبراهيم صادق وأحمد قاسم دماج ومحمد أنعم غالب وعبدالغني علي ويوسف الشحاري ومحمد عبدالولي وعبدالقادر وأمين هاشم وعلي محمد عبده ويحيى الشامي...إلخ. فإنه لابد أن يرتبط الحديث عن واحد من هؤلاء – ويقف السقاف على صدارتهم - بتجلي الغصة في محاجر الذين سكنهم ذلك الهم السامي, ولايزال. ففي الفكر.. اتخذ الفيلسوف أبوبكر السقاف من الآفاق الأوسع جهة لم يحد عنها, ولذلك عد أنموذجاً مائزاً بمسلكه التنويري العميق, الذي ما انفك يثور على طروحات التسطيح الثابتة, منتصراً للعقل ولحرية التفكير, كما للجدل. وأدبياً.. يشهد سجله السجالاتي الحافل, بأنه الذي انفتح على الجديد الإبداعي في بيئة منغلقة على قدامتها؛ إذ لم يكف عن التبشير بالمغاير المختلف, ضداً من المتشبثين بالراسخ غير المجدي. أما في السياسة فإنه من القلائل الذين حملوا على كاهلهم عبء قضيتنا الشاقة كيمنيين - التخلف الوطني والحضاري الفادح - حتى ارتبط اسمه بالإصلاح والتغيير السياسي الجاد, متسقاً ومبادئه, ومخلصاً لكرامته -غير قابل للمهادنة وصارخاً على الدوام ضد الصمت العبودي - فلم يمسه التلوث مطلقاً, حيث وإن عقيدة مثله العليا صلدة ولا ينالها الخدش مهما كانت المغريات. هذا في حين أن العصامية, هي الملفتة في الممارسة الحياتية للسقاف, تعضدها نزعة الزهد الصوفي, متحداً وروح الصعاليك الشهامى, لتبدو شخصيته غامضة كلغز وهي الواضحة جداً. فالسقاف ذو الصداقات العالية المستوى مع عديد أدباء وأكاديميين وسياسيين وحقوقيين مرموقين عربياً وعالمياً؛ إذ يحظى باحترامهم الفائق لمنزلته العلمية والنضالية, فإنه يحظى على مستوى غلابى الداخل بمقدار مضاعف من هذا الاحترام حتى من عمال النظافة وندلاء المقاهي، فضلاً عن الأجيال الجديدة, من المتطلعين بمثابرة للانفتاح سياسياً وثقافياً؛ إذ هو المعرفي الحقيقي, الناكر لذاته وسمته النقاء المحض. وفي تفكيره ينفذ - عميد شجرة “السقاقيف” المثمرة بحسب التعبير اللطيف للزميل فؤاد راشد - إلى بنية الفكرة ويصيب في استيضاحها, حتى ليحير الحيرة بجلائه التشخيصي الذي لا يخطئ.. وتلك ديناميكيته الدقيقة التصور, التي لازمته كمدركٍ داهيةٍ للحقائق المواربة, في مختلف تنويعات حياتنا السياسية والثقافية. والحق أنني أعتبر السقاف ذلك المكون البليغ لشجن أرواحنا كيمنيين غرباء, نتمنى الخلاص، وكما هو معروف.. فإن لصاحب الفؤاد المغامر هذا سوء نية من قبل همجيين بوليسيين أو دعاة غلق للعقول, تمسهم طروحاته في الصميم كما تعريهم. بيد أن الارتهاب لا يتمكن منه, وقد ذاق الحنظل مراراً خلال مسيرته, فيما يحق له الاعتداد بنفسه؛ إذ هو النزيه الذي لا يملك شيئاً في هذا العالم غير غرفة يقرأ فيها وينام ويكتب، وحيث ينتمي لكل قضية عادلة, فإنك تجده العضو الفاعل في عشرات من المنظمات الحقوقية والمدنية. والسقاف الذي تميز بنبوغه ومثابرته على التحصيل العلمي منذ الصغر, حاثاً على المعرفة والحداثة والبساطة مع الناس، إضافة إلى عدم مجاراة الظلم، تشرّب التراث العقلاني التحرري المجيد للثقافة العربية الإسلامية, كما عصور الإحياء والنهضة، وصولاً إلى تراث حركة التنوير الأوروبية والفكرين الاشتراكي والليبرالي بمختلف مدارسهما, وهكذا.. صار النضوج علامة رؤيته الفارقة. فضلاً عما سبق عرف عنه دفاعه الدائم عن مبادئه السامية, مهما أحاطته إحباطات الواقع الفج, وعليه فقد خاض جملة معارك ثرية, كمثابر نهضوي لا يعرف الاستسلام، وإنما من رماده يتفينق. ريادياً على سبيل المثال؛ يحسب للسقاف أنه أنشأ في عدن بتاريخ 22 أكتوبر61م – برفقة الأخوين علي وعبدالله باذيب - أول تنظيم يساري يمني, هو الاتحاد اليمني الشعبي الديمقراطي.. وقبل ذلك بسنوات قليلة كان من أهم المؤسسين لرابطة الطلاب اليمنيين في مصر, كأول حركة سياسية يمنية تضم جميع أبناء اليمن الطبيعي، وتنادي بالوحدة. في حين أنه بمواجهة الاحتدام المحتكم إلى قاعدة الإلغاء ما بين شريكي الوحدة وفشل الحوار عقب 22 مايو، كان هو الذي دعا إلى رفع شعار “الوحدة والحياة” عوضاً عن شعار “الوحدة أو الموت”. عقبها حذر السقاف من تطبيع شيطان الفساد الرجيم في الحياة اليومية للعباد والبلاد حتى لا تسيطر الكارثة التي صارت اليوم تحيق باليمنيين شمالاًً وجنوباً جراء سلطة بوليسية قائمة، سلطة دنيئة يواصل أوغادها تحرشاتهم الاستفزازية المادية والمعنوية ضد السقاف الذي صار يركز نضالاته على فضح رزاياها ومهازلها, ما تشهد به معطياته الجسورة التي لا تعرف الملل في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان. باختصار: له الجلال هذا الوهطي الأممي, الرفيع بمعطياته الإنسانوية والمعرفية والثورية, بينما لا نملك إلا أن نحبه جداً, متمنين له الشفاء العاجل؛ لأنه من قلة لا يتكررون, بل وباستطاعتهم وحدهم فقط رد الاعتبار الحلمي لذواتنا, التي تكاد تمحى وسط كل الخراب المهول الذي يضج من كل جانب. **** لبسمته المتهورة أفق مفتوح وفي مواثيق زرقته تتمكن الدلافين من الاهتياج يحدق في الجبال ويصيبها بالحمى وروحه معللة بمفاتيح البيانو كأنه نص أخير في دفتر شاعر مات أو حرير على صخرة ينتفض ويتهدج ويبتل وعما قريب سيتحول إلى طير.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي