الدولة.. عمق المشكلة

كتب
الاثنين ، ١٤ مايو ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٣٣ مساءً
عبدالله دوبله يبدو لي أن عمق مشكلة الدولة العربية (الراهنة) كظاهرة في كونها دولة جديدة وغير جديدة في آن. فالدولة العربية (القطرية) _من حيث هو معلوم للجميع_ تعد مسألة جديدة تاريخيا وجغرافيا، فهي حديثة الوجود والتشكل ككيانات سياسية وجغرافية نشأت خلال القرن العشرين كوريثة لما بعد الإمبراطورية العثمانية، والاستعمار الأوروبي، وبعض الممارسات السيادية لسلطنات ومشيخات عشائرية بدائية، غير أن هذه الكيانات الجديدة لم تكن جديدة بالفعل من حيث المفهوم البنيوي والوظيفي للدولة الجديدة. يمكن القول أن كل الدول العربية تتشارك هذا الوصف بلا استثناء، لا فرق بين دولة بنظام جمهوري أو نظام ملكي، بأيدلوجيا (قومية أو إسلامية أو يسارية) أو بدون أيدلوجيا، كبيرة أو صغيرة، فالفروقات هنا فروقات في شكل الدولة، وليس في عمق المسألة البنيوية والوظيفية للدولة الجديدة (طبيعة بنية الدولة الجديدة ووظيفتها). كي لا أعمم، هناك محاولات لبعض التجارب العربية في التحول إلى الدولة الجديدة يمكن الإشارة لها كتجربة تونس، بسبب هذه التجربة قد تكون مهمة الثورة التونسية للانتقال إلى الديمقراطية أو استكمال الانتقال للدولة التونسية الجديدة (الطبيعية) الأقل تعقيدا من بين مهمات ثورات الربيع العربي الأخرى التي تواجه مشكلات في عمق مسألة وجود الدولة ذاته حيث تواجه تحديات تفكيكية لإعادة تشكيلها من عدة دول أو الغرق في الفوضى. فيما لا يبدو أن الدولة التونسية تواجه مشكلة وجودية من هذا النوع، بالإضافة إلى الدولة المصرية كدولة ذات ممارسة عريقة وقديمة لمفهوم الدولة ككيان سياسي وجغرافي، (كدولة نهرية) مستقرة على هذا الشكل الذي هي عليه منذ مئات السنين. فإشكالية الشرعية الوجودية للدولة هي الخطر الأكبر والأهم من وجهة نظري من بين التهديدات التي تواجه الدول العربية الآن بدون استثناء، سواء تلك التي يعبر فيها عن المشكلة بصراحة أو من لا يزال يعبر فيها بأصوات خافتة. كما لا فرق هنا بين دول الربيع العربي الراهن، أو تلك التي لم يأت ربيعها بعد.. فعمق المشكلة العربية ليس في شكل الحكم في الدولة (النظام السياسي)، في ثنائية "ديكتاتور، وفاسد"، وإنما في جوهر بنية الدولة الجديدة ووظيفتها، كمسألة أساسية لإكساب الدولة المتشكلة حديثا الشرعية الوجودية الجديدة ( شرعية وجود الدولة)، أو تقويضها. لا يكفي هنا أن يعبر عن المشكلة العربية الراهنة بالقول أن هناك أنظمة ديكتاتورية تقمع شعوبها، أو فاسدة لم تكن تلبي حاجاتهم الاقتصادية ولا تدير مصالحهم بنزاهة، وكفى، بل في أن هناك دول جديدة تشكلت لم تكن قادمة من تجارب ولو بسيطة في تصورات وممارسات الدولة الجديدة وتحولاتها البنيوية والوظيفية، ولم تنجح في أن تتحول إلى دول جديدة طبيعية من ذلك المفهوم المعاصر لبنية الدولة الجديدة ووظيفتها، لاكتساب الشرعية الجديدة التي تحتاجها عادة تلك الدول المتشكلة حديثا ككيان سياسي وجغرافي غير مسبوق أو تشترك روافد عدة في تكوينها. فليس الديكتاتورية والفساد إلا أحد الأسباب التي منعت التحول باتجاه تلك الدولة الجديدة، فيما المشكلة في عمقها في أن تلك الدولة الجديدة بنية ووظيفة لم تكن قد وجدت بعد. مكمن الخطورة في هذه المشكلة الوجودية للدولة العربية الآن، هي أن مسألة وجود الدولة ذاته ليس أمرا ثابتا ومستقرا، لا تمسه الاحتجاجات والخلافات السياسية، كقاعدة يبنى عليها ويطور عليها، ربما باستثناء مصر وتونس، بل أن الخلافات والاحتجاجات أول ما تضرب للتعبير عن نفسها وجود الدولة ذاته وشرعيتها، باستدعاء هويات وعصبيات وجغرافيات ما قبل تشكل الدولة، التي لم تكن قد غادرت ذهنية الجماعات التي تتشارك في تكوين الدولة، لكون الشرعية الجديدة للدولة الجديدة كدولة مواطنة شاملة وجامعة لم تحل محلها بعد. لا شيئ محل رضا، بدأ من مسألة وجود الدولة ذاته مرورا بالنظام السياسي إلى الحكام، ولذا يأتي الاحتجاج إن ضرب على الكل (الدولة، النظام السياسي،الحكام) حيث يعبر عن ثلاثتهم كشيئ واحد، فالحاكم هو الدولة وهو النظام السياسي أيضا في الحقيقة والممارسة، كأي دولة قديمة من القرون الوسطى حيث الحاكم هو كل شيئ لمفهوم الدولة، إن كان من فروقات هنا في الدول العربية الآن فهي شكلية أو للاستهلاك الدعائي لا أكثر، فيما الذهنية والممارسة لمفهوم الدولة لا يزال قديما ويستقى من ذكرياتنا عن تلك الدويلات العشائرية ما قبل العثمانين ومعهم. بالطبع لا أنكر أن هناك بعض الممارسات الشكلية لما يشبه الدولة الجديدة، غير أنها ليس إلا نتاج أحد أمرين أحدهما التطور الزمني بالضرورة للمقتضيات الشكلية لدولة في القرن العشرين والحادي والعشرين، والأخر اجترار لتجارب ومفاهيم عالمية عن شكل الحكم للتقليد وظلت محل التطبيق الشكلي لم تتجاوزه.. في الحقيقة لم يحضر بعد مفهوم الدولة الجديدة ما كان يحضر نيابة عنها هو التنظير لشكل الدولة شكل الحكم شكل النظام السياسي ليس إلا.. ... يمكن هنا أخذ الدولة اليمنية مثالا، فهي الأصغر سنا من بين الدويلات العربية (القطرية) التي تشكلت جميعها خلال القرن العشرين، حيث يؤرخ لميلاد دولة (الجمهورية اليمنية) بالعام 1990، ككيان تشكل من رافدين لكل منهما روافده الأخرى التي أسهمت في تشكله. الأول: الجمهورية العربية اليمنية 1962 (شمال اليمن) وهي كدولة قادمة من تجربة سابقة أسهمت في تشكل الدولة اليمنية في شمال البلاد، هي المملكة المتوكلية كوريثة للأتراك بعد خروجهم من اليمن نتيجة الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، حيث أسهمت الحروب والاتفاقات التي خاضتها ووقعتها المملكة المتوكلية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين مع السعودين والأدارسة والإنجليز وبعض المنافسين المحليبن كالزرانيق والمقاطرة، في التشكل الجغرافي للدولة اليمنية في الشمال على النحو الذي ورثته الجمهورية العربية اليمنية حتى قيام دولة الوحدة في العام 1990. الثاني: جمهورية اليمن الديمقراطية والشعبية 1968 (شمال اليمن) ككيان وريث لروافد سابقة هي الاحتلال البريطاني المباشر لعدن ومحمياته في الجنوب العربي من مشيخات وسلطنات كان لبعضها تجارب أولية للتحول إلى مفهوم الدولة الجديدة كسلطنة لحج وسلطنتي القعيطي والكثيري في حضرموت، وصولا إلى إتحاد الجنوب العربي في خمسينيات القرن العشرين تحت إشراف الإنجليز، وهو الكيان الجغرافي للدولة الذي ورثته جمهورية اليمن الديمقراطية في الجنوب. لم تكن الدولتان قد نجحتا في التحول إلى مفهوم الدولة الجديدة في بنية الدولة ووظائفها حين انتقلتا إلى دولة واحدة، بل كانتا لا تزالان تعانيان من تلك الممارسات المتخلفة والبدائية لمفهوم الدولة فضلا عن موروثات الصراع على السلطة، وهو ما ورثتاه للدولة الجديدة أيضا. حضر التركيز في الشمال على شكل الدولة (الجمهورية) وغطى على الاهتمام الذي كان يجب أن يكون باتجاه مفهوم الدولة الجديدة في بنية الدولة ووظائفها، حيث حل مفهوم (الجمهورية) محل مفهوم (الدولة).. كذلك الأمر لم يكن مختلفا في الجنوب حيث حضر شكل الدولة (الجمهورية والنظام الاشتراكي) محل مفهوم الدولة مع بعض الأداءات التي يمكن القول أنها كان يمكن أن تضع لبنات أساسية لمفهوم تلك الدولة الجديدة. كانت الثورة في ذاتها و النظام الجمهوري غاية أهداف ثورة 62 في الشمال، ولم تكن الدولة الهدف، لم يكن حضور الدولة الجديدة في بنيتها ووظائفها الجديدة الهدف مع أن تلك الدولة الجديدة لم تكن قد وجدت بعد، أو لا ينقصها غير الشكل، ربما كان هناك توهما بأن الجمهورية والدولة شيئ واحد، وأن حضور الجمهورية سيحضر معه الدولة، غير أن أي منهما لم يحضر، تغير شكل الحكم من ملكي إلى جمهوري شكلا غير أن مفهوم وممارسات الدولة القديمة والبدائية لم يتغير. ما تغير فقط هو أن حل العسكر ومشائخ القبائل من جغرافيا معينة في الجمهورية محل هاشميي المملكة المتوكلية كجماعة تجد نفسها مميزة في الصراع على السلطة. لا يمكن إنكار أن هناك تحولات جديدة حدثت في وظيفة الدولة في الجمهورية غير أنها تحولات شكلية كان يمكن أن تحدث بفعل الزمن في النظام الملكي أيضا.. قالت الثورة والجمهورية أن الشعب مالك السلطة ومصدرها كأحد المفاهيم الأساسية لتحولات الدولة الجديدة غير أنه ومنذ ذلك الحين لم يستلمها حتى الآن. فالدولة الجديدة في بنيتها ووظيفتها، دولة دستور، قانون، مواطنة، أمن، قضاء، اقتصاد، حرية، عدل، مساواة، بعض هذه المفاهيم كان حاضرا في دولة الجمهورية غير أنه كان حضورا شكليا وقاصرا، لم ينجح في تحويل الناس إلى الانتماء إلى هوية الدولة الكبيرة، ذلك الانتماء الذي يمنح الدولة شرعية وجودها واستمرارها، بل ظلت الانتماءات للهويات الصغيرة حاضرة، وكذلك الممارسات العشائرية والبدائية القديمة في بنية الدولة ووظائفها أيضا. في الجنوب كان يمكن اعتبار تجربة الجمهورية والنظام الاشتراكي في فرض الدولة والقانون مع أنهما كانا يفرضان بتعسف وقمع من تلك البدايات التأسيسية لمفهوم الدولة الجديدة، كان يمكن أن تتطور بالتخلي عن الشمولية والقمع وحضور الحريات والتعدد السياسي والانفتاح الاقتصادي كتجارب اشتراكية أخرى تطورت في هذا الاتجاه، غير أن الصراعات التي عادت بالدولة إلى هويات ما قبل الدولة دمرت التجربة في بدايتها ولم تسمح لها بالتطور، فيما يمكن القول أن المآلات التي انتهت إليها تجربة دولة الوحدة أجهزت على ما يمكن أنه قد تبقى منها.حيث كان التطور الذي حصل هو تعميم الممارسات البدائية لمفهوم الدولة من الشمال إلى الجنوب. لم يكن الاتجاه للوحدة حلا بقدر ما كان مشكلة إضافية، فتوسيع الشكل الجغرافي للدولة لم يكن ذلك الحل الذي ينقص الدولتين في الشمال والجنوب فعلا، ما كانا في حاجة إليه هو أن يتحولا إلى دولتين طبيعيتين من المفهوم المعاصر لبنية الدولة الجديدة ووظائفها أولاً، كانت تلك هي المشكلة في الحقيقة للدولتين والتي ورثوها للدولة الجديدة الموحدة. مثل هذه الدولة التي اتت بها الوحدة لم تكن طبيعية ولم تكن تحمل عوامل بقاءها في ذاتها، وليس أن حرب صيف 94 هي من أجهزت عليها كما تظلم دائما بهذا الوصف، لم تكن الحرب إلا النتيجة الطبيعية لتلك الوحدة بين دولتين بدائيتين ومتخلفتين نقلتا معهما تلك البداءة والتخلف وعوامل الصراع إلى الدولة الجديدة. كتقاسم السلطة والجيشين المنفصلين والتعددية الحزبية الشكلية التي لم تضف شيئا مهما ومؤثرا في بنية الدولة ووظائفها كدولة جديدة. بولغ ومنذ البدايات في اعتبار الوحدة إحدى ثلاث ركائز أساسية تستمد منه الدولتين شرعيتهما، إضافة إلى الثورة والجمهورية.. واستمر الحال كخطاب إلى ما بعد الوحدة حتى الآن.. في الحقيقة لم تكن الثورة والجمهورية وحتى الوحدة من تلك المسائل الكافية في ذاتها لمشروعية الدول. فليس ثلاثتهم إلا آليات في خلق الدولة بداية، أو خلق شكلها الجغرافي، وشكل نظامها السياسي. ما كان يمكن أن يمنح هذه الدولة الجديدة المشروعية هو النجاح في تحويل انتماءات المواطنين والجماعات التي تشترك في تكوين الدولة من هوياتهم القديمة والصغيرة (هويات ما قبل الدولة) إلى الانتماء إلى الفضاء الأكبر للدولة، كدولة مواطنه في بنيتها ووظائفها الجديدة، وهو للأسف ما لم تنجح الدولة اليمنية في أن تكونه حتى الآن. التحمس الآن لشعارات وحلول على شكل الدولة كغايات وأهداف في ذاتها، كالحديث عن الإنفصال أو الفيدرالية، أو الإبقاء على المركزية، أو شكل النظام السياسي، (رئاسي أو برلماني)، لن يختلف في تخليف الخيبات كما خلفه التحمس السابق لشكل الدولة في الوحدة والجمهورية. ليس شكل الدولة وشكل النظام السياسي من تلك الحلول التي تنفع أن تطرح كغايات وأهداف، الغاية والهدف الرئيس الذي يجب أن يكون هو التحول إلى دولة طبيعية وجديدة في بنيتها ووظائفها، تلك الدولة التي تنجح في أن تكون حاجة لمواطنيها وفي تحويل ولاءاتهم عن هوياتهم الصغيرة والضيقة إلى فضاء الدولة الأكبر والواسع، فمشروعية أي دولة واستمرارها في ضمانة مواطنيها وحاجتهم إليها، وليس شكل الدولة وشكل النظام السياسي إلا الأدوات المساعدة لخلق تلك الدولة الجديدة التي نحتاجها في بنيتها ووظائفها الجديدة. للنظر بعمق لا بتحمس وتعصب لأي من تلك الآليات المساعدة التي قد نحتاج بالفعل.. ما يجب أن ندركه جميعا هو أن الدولة اليمنية هشة في طبيعتها ككيان سياسي وجغرافي لا يتعدى عمره العشرين عاما، كانت و لا تزال المفاهيم البدائية والمتخلفة والولاءات الصغيرة حاضرة في بنية الدولة ووظائفها، وعند الجماعات المناهضة لها أيضا، وهو الأمر الذي لا يزال يتهدد وجودها إبتداء، إما أن تنجح الآن في التحول إلى تلك الدولة الطبيعية في بنيتها ووظائفها الجديدة لكسب مشروعية وضمانة مواطنيها كحاجة ومصلحة وإطار يجدون فيه هويتهم الكبيرة، وإما أن تنتهي كدولة لم تنجح في أن تكون دولة بالفعل. الدولة هي المشكلة وهي الحل أيضا..
الحجر الصحفي في زمن الحوثي