رسالة شفافة وعاجلة إلى الأخ: شوقي هائل

كتب
الخميس ، ٢٦ ابريل ٢٠١٢ الساعة ٠٣:٢٥ مساءً

بقلم / عبدالله عبدالكريم فارس

  ليسوا أذكى منا، لكنهم يدعمون الفاشل حتى ينجح، أما نحن فنحارب الناجح حتى يفشل. - د. أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل العلمية. الأخ شوقي أحمد هائل: ثلاثة هي عقول البشر: عقول عظيمة تناقش الأفكار والطموحات، وعقول متوسطة تتكلم عن الأحداث، أمّا العقول الضئيلة جداً فهي تلك التي تلوك أخبار وسوءات الناس وتجعلهم أكبر همها. ومن ذلك المنطلق، دعني اختار الحديث معك في الصدر الأول من الحكمة. فما وقعت عليه عيوننا سويّـاً من اليمن، إلاّ على قواسمها المشتركة وما آل إليه حالها. لا شك عندي في أننا ننطلق من بوتقة واحدة، وأن جميعنا نريد يمناً واحداً فوق الأوهام وفوق كل الأرقام، ونريد لمناسبتها التاريخية هذه أن توازي طموحات الجيل الجديد من شبابه الواعين الذين يستحقون ذلك بجدارة، ولمواطنوه الرائعون نجاحاً نقياً كقلوبهم. - نريده وطناً مبهراً، ولمكانته أن تحتل سدرة منتهى تشبهه. ورغم كل قساوة المناخ الواقعي للحلم، إلاّ ان الأمر قد قضي بقبولك عبء المسؤولية، فأصبح لزاماً عليك أن تسافر نحو غيمات بها غيث لوطنك، حيث السماء ربما تهيئ له من فيضها آمالاً واعدة. - سر بعون الله، وليهبك الله المستعان لغة أنيقة على لسانك، وفكراً نيراً في عقلك، وتعاملاً متسامياً في سلوكك، وإخلاصاً هائلاً في أدائك. فكل من يحمل فضيلة حلم جميل بوطن جميل، ليس سوى إنساناً مؤمناً وجميلا. أخي شوقي: إن يوم عهدك هذا، يوم سفر يمتد بإمتداد العمر، نحو أمل لا ينتهي، وبإتجاه سنوات من العمل والإنجاز نراه على الطريق معبداً هناك بعيداً، حيث الهدف الذي تطمح إليه وحيث تنتظرك تعز المستقبل، عنواناً للمدنيّـة، ومدينة تقود الكل صوب النهضة والسلام، كما تأملها أنت أن تكون… ولم لا، فهي التي بدأت أول ركلات رحلة الحياة في أحشاء اليمن بحثاً عن الإنعتاق والخلاص. كما أنها أم المدائن العزيزة على الأفئدة والتي يأمل لها كل اليمنيون أن تصبح قلبهم النابض. ولربما تكون هي صاحبة الرحم الذي يعود من بوابته، لهذه البلدة الطيبة التي أوتيت من كل شيء، عزها وأسطورة عرشها العظيم مرةً اُخرى. إن تعز التي عشت فيها أولى سنين حياتي، مدينة استحواذية جاذبة، متناغمة ومباغتة، كذلك حضارية بقيم مدركة وواعية، وذات مخزون فائض متجانس ومغاير. - وحقيقة، لا أدري لماذا يستحوذ على إدراكي نوع من اليقين بأنها إن امتلكت قرارها، فإنها سوف تأخذ مكانتها الطبيعية ضمن سلسلة المدن الأكثر إقتداراً وخصوبة في عالم المنافسة، أي كمدينة فاعلة تحتكم إلى قواعد حَلبة بطولة الإقتصاد والحرية، ومن عداد المدن التي يشار إليهن بالإعجاب، ولأبنائهن بالتقدير والإحترام. أعتقد أن يقيني ذلك نابع من أن تعز التي لاتزال ذاكرتها مثقلة بجمر الواقع وصدمة الإرتطامات العنيفة التي كادت أن تهلكها وتغرقها في عتمة الليل النفسي الحالك، فأكتفت بربط غرائز الحرية بالتمرد على سطوة الأخ الأكبر، ولم تحترف الغواية ولاجناية اللعب بجسد الوطن، أو هتك المستور كما تعودنا عليه كثير من المدن الواقعة تحت غيبوبة المناطقية وتأثير الأيدولوجيات التي تعصف بالحياة وبالمصائر، فتعمق الجروح النازفة وتنزع مباهجهنا المشروعة وتسحق تطلعات الذات في دواخلنا. بل قابلت تعز كل ذلك برفع وتيرة العلاقات الحسية بكل سخاء، وهي ممسكة بتلابيب أبناءها المثخنون بالجروح المتعددة، لتحركهم بلغة حية حتى يبحث كل منهم عن ملاذه المتمرئي في التوق نحو إستعادة ألق جسدها الفاتن؛ والمزج بين إمكاناتهم ووعيهم وشيمهم المتسعة للكل. - فظلت تعز، بما لا يختلف حوله أحد، بحنان تلك الأم التي تحمل بين جوانح صدرها وفي ثنايا رموشها، كل أنحاء اليمن على حد سواء. لذلك ولكل ذلك، فإني أتمنى عليك وعلى كل محافظة تعز بأن تتمظهر ببراعة مخيال أبناءها، - أكبر قوة إقتصادية فاعلة ومنتجة على الأرض اليمنية -، حتى تنتقل برشاقة راقصة الباليه إلى ليالي الإحتفالات الكرنفالية التاريخية في ربوعها، وإلى مساءات إنسياب البشر اللاّئذون بعتباتها المكتنزة بالحس الجمالي ونسمات الحرية الشخصية، فتصبح هي قُبلة الحياة لليمن الجديد، وقِبلة الجزيرة العربية التي تنام على ذراعيها كإمتداد، إب التي أنتمي إليها؛ المحافظة الخضرآء الحاملة لبذرة المنطقة الأكثر غزارة في الإنتاج الزراعي والصناعي-المساند وكذلك القوى البشرية العاملة، وعلى الجانب الآخر، المخاء بسواعدها وبسواحل بحرها الأحمر الساحر، والزاخر بثرواته البحرية والسياحية ومنافذ تبادل المنافع التجارية مع سائر الدول القريبة والبعيدة. نريد لتعز عودة الروح والدفء المعهود بها، فلا تلقي بالاً لما شحب من ملامح أحيائها. نريد لها أن تفتح صدرها للحياة، ماحيةً من شريط صندوقها الأسود بعض همزات الفحيح الديماغوجي الزاعف بالسم، فلا تعبأ به، ولا برياح المغول الجدد الذين هتكوا أستار هدوءها ليلاً فشوّهوا مؤقتاً بعضاً من جمالها. كما نريد لها أن تفلت بفضائها البشري المبدع والمنتج من الوقوع فريسة للأيدولوجيات وخبث ومكائد بعض المستلبة شخوصهم من أبناءها والمستثمرين لهم في تشظيات ووجع الماضي. - حتى يتخلق من حملها السلمي عقيدة تؤسس قواعد مدنية وقانونية تُحجّم من قدرة الأنا السلطوية والعقائدية على التنكيل والتكبيل، وإلى توزيع فائضها الثوري ضد تاريخ القهر على البقية المغبونة. الأخ شوقي أحمد هائل: يا من يحسبه الناس منقذاً وطوق نجاة. أحترم الفراسة والعبقرية الإنسانية في المسؤول الذي يظل - كمن يضع رأسه فوق المخدة يقظاً - حريصاً على إصطياد العقول النيرة، فرداً إثر فرد، من ذوي التوقد الذهني والإستشرافي على قراءة الظروف الإستراتيجية في وقتها المناسب، وإستقطاب القادة القادرون على إعادة تدوير المقدرات المتاحة ومزج الإرادة الطموحة بالأفق الإنساني، والمهرة البارعون في إستثارة المخيلة وإنبثاق التصورات والخطط الخلاقة، فيشكلون معاً، مناخها الثقافي الإبداعي والتطويري المتوازي مع المتن الإقتصادي، وكذلك ضم من يتقنون تقوية عرى شرائح المجتمع وتعاضد إهتماماته وأهدافه. فأولئك هم الذين يشعلون جذوة التغيير في الدول الصاعدة، أو كما يشير إلى ذلك الكاتب د. مروان الغفوري: «البلد الفقير أحوج ما يكون إلى استشرافيين ذوي خيال أسطوري، لا يحده الوقت من أي جهة». وأولئك أيضاً، هم الذين يصنعون للقيادة ذلك الحضور القوي على المسرح بتلك المسحة السحرية الأخاذة، وهم منعة القيادة ضد من يحاولون صد المسيرة وتأجيل النتيجة، وهم أدوات القائد السياسية للتعامل مع فوضى المنعطفات التي تفيض بها دروب الواقع. وهم كذلك أذرعه التي تمكنه من إعادة صوغ عقول المجتمع وخلق الإلتفاف الشعبي حول الأهداف المبثوثة في خلايا ومسامات العناصر والقوى الفاعلة على الأرض، وهم من يقومون بإعادة تغليف اليمن وصقل ميزاته، وكذلك هم الأكثر فعالية في نقل التقنية والمكننة والمعلومة. وذلك في اعتقادي من أهم الأصول المتعلقة بصناعة المستقبل. إن إحساسي بثقل المسؤولية حين تتحول إلى أمومة وأبوة، - كما في حالتك - يزيد من قناعتي بأن طريقك كثير التعرجات؛ فالمشروعات سواءً الإجتماعية الفرعية أو الإستراتيجية لا تنجح بالمستوى المطلوب ولا تستمر في الزمن، بل وقد تتعثر وتتساقط إن لم ترتبط بنظرة مستقبلية ثاقبة ونافذة في الصلاحيات وفي الكفاءات وفي نقل المعرفة وفي الأصول وفي المقدرات، وفي ربط كل ذلك بالنظرة الإستراتيجية بعيدة الأفق والمدى للبلاد ككل من قبل القيادة والحكومة. أخي الكريم شوقي: إيذاناً بالشفافية، أوجه لك هذه الرسالة علناً، ليس بحكم انك من سلالة نبلاء إقتصاديون أو لأنك مسؤولاً حكومياً؛ إنما لأن المعادن الثمينة من النخبة المصقولة بالخبرة والتجربة نادرة ومطلوبة جداً ولا تقف على الأبواب ويجب إصطيادها. ولأنك كأسلافك صاحب رؤية إستشرافية ذات مشروع مستقبلي. وربما لأنك كذلك خير من يعلم بأنه ليس هناك قدراً ثابتاً يجعل شعوباً فقيرة وشعوباً غنية بالطبيعة والضرورة، وإنما هناك فقط، إختيارات مصيرية تجعل نخباً تقود شعوبها نحو الريادة عبر العطآء والإنتاج. ولأننا نشترك في كفاية عباءاتنا المالية فلا نطمح لفرصة أو لكسب من مجتمع يدق أضلاعه زمهرير العوز والفقر، فنحن نتشارك في حب يستحق منا التضحية والإيثار؛ حب اليمن وأهلها من الذين لايزال أغلبهم على الفطرة بعيداً عن الأيدولوجيات الهابطة، والهابطة علينا من غياهب الآفاق. ومن القادرين بسلاح العلم والوعي والفطنة الهادئة على سماع الصوت الذي يدلنا على الطريق إلى موعد اليمن مع القدر وما يخبئ لها الخالق الوهاب من خير في سابق علمه. وبذلك نتمكن سوياً من زرع بذور الحضارة في جسد التخلف حتى يتخلخل، فتصبح صورة تعز ومحيطها نموذجاً يحتذى به، ومختلفاً عن تلك «المليحة التي لايعشقها سوى السم والجرب»، في قول معتم للبردوني رحمه الله. أخي العزيز، أستنطق قلبك الآن، فالمتتبع عن كثب لمسيرات أمم مماثلة لنا، سوف يجد أن نهضتها لم تكن بمحض الصدفة، وإنما جاءت كنتيجة لقرارات قيادية خلاقة وطموحة. ثم أستنطق قلبك، وتواصل معي وعاهدني بمواقع النجوم على الذهاب إلى أبعد من الأحلام، وأنا، كما كثيرون غيري، عند وضوح الرؤية وانقشاع أثر هذه الغفوة الزمنية، على إستعداد لأن اُجند نفسي إلى جانبك، فأكون من الذين سيكتبون معك تاريخ التحولات العظيمة أو حتى التراجعات فيما تبقى من سنين العطاء في هذه الحياة. - ومن هنا، أدعوك وكذلك أنتظر دعوتك المباشرة بالتواصل، لنكتب معاً سطوراً كونية ساطعة ستبقى دليلاً واضحاً في ذاكرة المؤمنين الذين سيكتبون كلمة حق في فصول التاريخ. إن كنت أنت جاداً في مسعاك كما أعلنته على الملأ، فأنا ممن يسعون لأن تكون ملحمة حلم تعز كما تريده لها، خاصة بعد أن بدأت الشعوب في طرق أبواب النضوج مؤخراً، وممن يطمحون لأن نخطوا معاً كالأطفال في النمو والسير بها نحو العدو السريع، وإلى تفعيل تلك الرغبة الحارقة التي تتملك شبابنا نحو النهضة. فالشعوب لا تنتكس إلى القيم التناحرية إلاّ حين تفقد ثقتها في من يتحدثون بإسم المستقبل وعن المستقبل. وما تطلبه الشعوب وتطالب به فعلاً، هو تحسين شروط الحياة. وأصل الحياة عند الشعوب هو إقتصادياتها، وهي الحياة بذاتها، كما أن الإقتصاد الصاعد هو الذي يدفعها نحو إبتغاء سبل الإصلاح ووسائل التقدم. وما أرمي إليه هو نسج لوحة رائعة منطلقها الإنسان بأحلامه وهمومه كأساس قيمي ومقدّس، وإلى تحويل تعز إلى واجهة عصرية حديثة عامرة بإنتصارات الإرادة اليمنية وبالفرح وبالإنجازات، فتمثل للخارج الأيقونة المبهرة التي تضيء وجه اليمن، والتي نرسم من خلالها كرنفالاتنا الإحتفائية، الإبداعية والإنتاجية والثقافية. وإلى أن تصبح تعز بالنسبة لليمن ككل، معملاً ومختبراً متطوراً يمدها بأدوات وآليات وثقافة الإنتصار على الفقر والتخلف، وفي تحديد مسارات الولوج إلى عصرها الإقتصادي الواعد بالخلاص من الجهل ورفع سقف الحريات. ختاماً، اسمح لي أن أقول لك: ياصاحب الشوق لتعز القادمة، سأحرص اليوم على تذكيرك بأن مستوى علاقاتك العامة يرتكز على إلتقاط مثل هذا الطرح الإستراتيجي، والتجاوب الإيجابي معه هو القول الفصل في الحكم على براعتك في القيادة، في إصطياد العقول، وفي توزيع أدوار الفرقة العازفة لسيمفونية النجاح. - وإن لهذه الدعوة فصول أخرى أحتفظ بها ليوم آخر، وسوف أتناول ذلك في زمن أو لقاء قادم بالتفصيل. لتكن إن شاء الله من أولئك النابهين الذين يؤمنون بأن الله واحد، وأن ليس لليمن الواحد إلاّ أهلها. وفي القريب لك ـ أيها السعيد ـ أن تستلذ بنخب نشوة النصر الآتي، ولك متعة مطالعة الدهشة والذهول على محيّا الأهل والجيران وهم يتابعون محاضرات فك طلاسم الحضارة التي تاهت عنهم طويلاً… وحينها - إن فعلت -، من حقك أن تهنأ حتى آخر رشفة من إناء التحول والإنجاز التاريخي الذي آل إليه بلدك، حين تقود السعيدة بجهدك المخلص إلى نادي الأمم الصاعدة مرفوعة الرأس. وليسمح لي القراء الكرام بإطلاق هذا التصريح الإفتراضي وبأعلى صوت: يا كل سكان الأرض تحملونا قليلاً، هذا الفاصل ناتج عن خلل رديء ومؤقت في تاريخنا، فاصل قصير ونعود كشعب حضاري رائد. - أبقوا معنا. مع صالح دعواتكم معي لشوقي بالتوفيق وبالتألق وهو يعبر الجسر نحو المستقبل، وشكراً. [email protected]
الحجر الصحفي في زمن الحوثي