التصالح والتسامح.. اقرب الطرق لليمن الجديد المزدهر

كتب
الثلاثاء ، ٢٦ مارس ٢٠١٣ الساعة ١٢:٥٠ صباحاً

 

رغم انكاري على من يجتر الماضي، في ممارساته وتحركاته وحكمه على الناس وتعامله معهم، الا انني اليوم سأجتر الماضي وسأعود الى مقال كتبته العام الماضي حول التصالح والتسامح، وهو المقال الذي واجهت بسببه نيرانا صديقة كانت قاسية بما فيه الكفاية، افقدتني الكثير من اصدقائي الذين لا استطيع ان اقول عنهم كما قالوا هم "غير مأسوف عليك" لاني في نظرهم تجاوزتُ خطوطا حمراء وطالبتُ بنسيان الماضي والنظر الى المستقبل، وهذا في نظرهم كفر بالثورة، ونكوص عن اهدافها.

 

أعرف اليوم اني أخوض غمارا شائكة، وأن دعوتي الى التسامح والتصالح بين اليمنيين جميعا، دون استثناء او إقصاء او تخوين او تفسيق او استبعاد طرف من الاطراف بسبب اجندته السياسية او فكره الايدولوجي او منطقته أو عرقه أو مذهبه؛ ستجعلني في مرمى سهام بعض المطبلين الصغار الذين لايتحركون إلا بالريموت كنترول من أولياء نعمهم، وبعضهم يريد ان يكون ملكيا اكثر من الملك ذاته..!!.

 

وأعرف مسبقا أن هناك إرهابا يُمارسه البعض، بجهل او ربما بعلم، سواءً من مؤيدي الرئيس السابق الذين تم شحنهم خلال الفترة الماضية ضد اللواء الاحمر وابناء الشيخ الاحمر، واصبحوا يرونهم شياطين خونة لايمكن الجلوس اليهم او الحديث عنهم، فضلا عن ان يكون الحديث او الجلوس معهم، او الطرف الثاني من الشباب المتحمس في الساحات، الذي مافتئ يُعبَّأ ويُشحن خلال الفترة الماضية وحتى اليوم ضد شخص الرئيس السابق علي عبدالله صالح وأسرته فقط!! "رغم ان المطلب الرئيسي كان إسقاط النظام الفاسد كاملا وليس إسقاط الرئيس والائتلاف والوفاق مع باقي نظامه كما هو قائم حالياً" وقد ذكرتُ هذه المعلومة لتحقيق الواقع الذي وصلنا إليه ليس إلا.

 

قمنا بثورة شبابية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وأبهرنا العالم بسلميتنا التي كانت نابعة من قناعاتنا الذاتية بأن الدَّمْ لايجُر إلا دَمْ، وان السلاح اذا نطق فلن يسكت، لاسيما في مجتمع مسلح يغلب عليه الامية والحمية القبلية، ورغم امتلاكنا لمختلف انواع الاسلحة وأحجامها وكمياتها، ومع ذلك اخترنا السلمية، وخرج الشباب الى الساحات بصدور عارية، ليس رغما عنهم كما في بعض الدول التي لايمتلك شعبها السلاح، لكنها القناعة والاصرار وإرادة الشعوب التي لاتقهر.

 

بعد سقوط مئات الشهداء وعشرات الالاف من الجرحى والمصابين والارامل والايتام، تحقق 50% وربما اكثر من الاهداف التي خرجنا من اجلها، متمثلة بإسقاط رأس النظام الذي كان يُمثل رأس الحربة، وحامي حمى كل من يندرج تحته، وكل الممارسات التي تمت في عهده، خلال ثلاثة عقود مضت، وتوقفنا بإرادتنا أيضا؛ كيمنيين نخاف على بلادنا التي كانت تهرول نحو حرب اهلية مدمرة لاقدر الله..

 

* والآن، وبعد ماتحقق من إسقاط رأس النظام، او تنحيهِ عن الرئاسة وفق تسوية سياسية اقليمية دولية، لافرق، فالنتيجة واحدة وهي تغيير الرئيس وأصبح للبلاد رئيس جديد منتخب من عامة الشعب وفق تلك التسوية التي لازلنا نختلف حولها هل جاءت لصالحنا ام ضدنا، وكلٌ له رأيه ونظرته لها..!!

 

 

 

وماذا بعد؟؟

 

لازالت بعض الاطراف السياسية والمصادر الرسمية تؤكد ان الرئيس السابق ونظامه المُشارك في السلطة بنسبة 50% يقودون حملات مضادة للنظام الحاكم الجديد، سواءً تلك الحملات المعلنة عبر الآلة الاعلامية الضخمة التي يمتلكونها من قنوات وصحف ومواقع اليكترونية وإذاعات وغيرها، كالتحريض او النقد الجارح الهادف الى التشويه والتشهير وليس البناء، او الحملات غير المباشرة؛ كدفع وتشجيع بعض المؤيدين لهم من موظفي الدولة بالقيام بالإضرابات والمظاهرات المطلبية، أو التوظيف الجماعي "التوريطي" الذي أعلن عنه في آخر عهده كعبء كبير جدا على كاهل الحكومة الجديدة، أو التخريب الحاصل في بعض المرافق الحيوية والتنموية والتي يقوم بها بعض المؤيدين له لإفشال جهود حكومة الوفاق الوطني، ولإظهار ان الحكم السابق كان افضل من الحالي، ولإرغام المواطنين على القول بأن عهد علي عبدالله صالح كان افضل من عهد عبدربه منصور هادي وحكومة الوفاق الوطني..!!

 

كما لازال طرف رئيسي في الثورة يُمارس عبر وسائل الإعلام التي يُسيطر عليها، سواءً كانت مرئية او مقروءة او اليكترونية، لازال يُمارس نقداً جارحا وتشهيرا غير مبررا في حق الرئيس السابق واسرته ومعاونيه رغم تخليهم عن السلطة وابتعادهم عن المشهد السياسي ولو ظاهريا..!!.

 

واعتقد ان كلا الطرفين يرى أنه يُمارس حقه المشروع كرد فعل طبيعي في إطار اللعبة السياسية القائمة بين الطرفين منذ ماقبل ثورة 2011م الشبابية، لكن يبقى السؤال المهم في هذه المرحلة: الى متى ستستمر هذه اللعبة بين خصمين لدودين يمتلكان مقومات الحرب الباردة والحارّة!!، وكل منهما مستعد للآخر بل ومتربص به، وربما تنفجر الاوضاع في اي وقت، وساعتها لايمكن ان تتوقف إلا بدمار البلاد وتشريد العباد لاسمح الله..

 

هل يجوز شرعا وقانونا وعُرفا قبليا ان تستمر هذه اللعبة الى ان تقضي على البقية الباقية من الوطن المثخن بجراح ابنائه المنكوبون بأبنائهم الشهداء والقتلى، ومنازلهم المدمرة، وأمنهم الهش، وسكينتهم المبعثرة، وحتى أرزاقهم الضئيلة؛ والتي باتت صعبة المنال بسبب ممارسات الطرفين المتكافئين في المال والاعلام والقوة والقبيلة، ومايمارسونه من إفسادٍ لحق الانسان في الحياة بأمن وأمان..

 

وهناك اطراف اخرى لها اجندات سياسية تريد ان تفرضها فرضا على ارض الواقع، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب..

 

هناك الحوثي والحراك الجنوبي والاصلاح والسلفيين وبعض المشاريع الصغيرة التي تدندن هنا او هناك، وكلها مشاريع صغيرة اذا ماقورنت بالوطن وماسيحل به جراء تلك الممارسات التي تمارس من قبل هذا الطرف او ذاك، وجراء الاموال التي تدفع هنا او هناك، والولاءات التي تباع وتشترى، وأصبحنا سوقا رائجة للمشاريع الاقليمية والدولية، وحلبة صراع ممهدة لتصفية الحسابات الخاصة بالدول او التنظيمات او حتى الاشخاص!!، بل اصبحت هناك بورصة عامة لسعر المشائخ والسياسيين والوجاهات الاجتماعية، وليس لنا نظير اقليمي او دولي في هذا المجال على الاقل، وكل هذا على حساب اليمن ارضا وانسانا واقتصادا وثروة، وكل مقدرات البلاد ستذهب بلا عودة في سبيل انتصار هذا الطرف او ذاك.

 

 

 

ماهو المطلوب؟

 

أعتقد بأننا وصلنا الى مرحلة حرجة في حياتنا كيمنيين، أصبحنا محكومين بالوصاية من قبل عدد من السفراء العرب والاجانب، على رأسهم المبعوث الاممي جمال بن عمر، الذين يعملون كأوصياء على قراراتنا وتسيير شئون حياتنا وكأننا اطفالاً قُصّر، ويجب ان نعلم ان هذه الوصاية وان كانت تجلب الاموال لكلا الطرفين –وليس للشعب أو للبلاد- إلا انها ستبقى عاراً يُسجله التاريخ بأن اليمن رضخت لوصاية إقليمية ودولية بسبب نفر قليل من ابنائها المتنازعين على مصالح دونية زائلة..

 

يجب ان نقف مع انفسنا قليلا، وان نراجع حساباتنا، وان نعمل على ضبط الامور وقياس مصلحة البلاد والعباد، وان نجعلها فوق مصالحنا الذاتية، لاننا لن نجد مكانا نسيطر فيه او نبني فيه جاها وسلطة ونظاما ومشروعا فئويا او مذهبيا او سياسيا اذا اختلط الحابل بالنابل، واصبحنا مثل الصومال لاقدر الله..

 

 

 

لماذا لانكون مثلهم؟

 

لماذا لانستفيد من تجارب الدول التي دخلت في محن كبيرة وخرجت منها منتصرة لذاتها، واستعادت قوتها واقتصادها وأمنها في غضون عدة سنوات بإرادة ابنائها وتساميهم فوق الجراح، وتغليب مصلحة الكل على الفرد، ومصلحة البلاد على الذات، ومصلحة الامة على الاسرة..

 

لماذا لانستفيد من جنوب افريقيا، ومن رواندا، وكلها دول افريقية اعتقد انها اقل منا ثقافة ووعيا واقتصادا، واكثر منا دموية واختلافا دينيا وعرقيا، ومع ذلك استطاعت هذه الدول ان تسجل نسبا مذهلة في كيفية استعادة الدولة، وبناء الانسان من جديد، وفض النزاعات ونسيان الماضي القريب، والتسامي على الجراح، واستعادة وطن كان في مهب الريح..

 

رواندا بلد مرعب الذكريات حدثت فيه عام 1994م مجزرة بشعة، وشهد هذا البلد الافريقي مذابح من النوع الذي يوصف بالإبادة الجماعية، واصبح تراب هذه الدولة مشبع بالدماء نتيجة تلك المذابح التي تقشعر منها الجلود؛ والتي تمثل واحدة من أبشع المذابح في العصر الحديث؛ راح ضحيتها مايقارب مليون شخص نتيجة الكراهية الدينية والعنصرية القبلية، وهو رقم كبير اذا ماعرفنا أن عدد سكان رواندا لايصل الى 11 مليون نسمة، اي ان 10% من عددهم ذهب ضحية تلك المجزرة.

 

قامت قبيلة الهوتو وهي مسيحية وعددها يزيد عن 80% من سكان البلاد، بتلك المذبحة البشعة، وقتلت مليون شخص من ابناء الأقلية من قبيلة التوتسي المسلمين من الرجال والنساء وحتى الاطفال الرضع بوحشية ليس لها نظير في التاريخ وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع..

 

من مصادفات القدر ان المذابح التي شنها القادة المتطرفون في قبيلة الهوتو ضد الأقلية من قبيلة التوتسي بدأت في أبريل 1994، وانتهت في يوليو من نفس العام، اي في نفس توقيت حرب صيف 1994م عندنا هنا في اليمن، وبالتالي يمكن لاي عاقل ان يعقد مقارنة بسيطة بين الوضعين في كلا البلدين، اين وصلت رواندا اليوم بعد 19 عاما من تلك المجزرة، واين هي اليمن بسبب بعض أبنائها..!!

 

اليوم وبعد مرور 19 عاما تقريبا على تلك المذبحة المشؤومة، تقف رواندا على قدميها وقد حققت نجاحا كبيرا في مجالات عدة أهمها المصالحة الوطنية ووضع دستور جديد للبلاد وتغيير المناهج التعليمية من جذورها، وحققت طفرة اقتصادية غير مسبوقة فاقتصادها يعد من افضل الاقتصادات نموا في العالم..!!

 

يقول الداعية المعروف عمرو خالد الذي زار رواندا مؤخرا وهو الذي لفت نظري الى تجربة هذا الشعب العظيم، ان الروانديون عندما تسألهم انت من الهوتو ام التوتسي ينظر اليك بنوع من الاحتقار، لقد تناسوا وأمروا الاجيال الجديدة ان تنسى هذه التفرقة التي اصبحت جزء من المحرمات في رواندا..

 

عندما نتحدث عن مصالحة وتسامح بين خصمين فلا بد أن يكون منشؤها رغبة الخصمين أوالخصوم في التسامح والتصالح، وأن تكون نابعة من الصميم، رغبة تدفعها الشجاعة والضمير، رغبة في الوصول للسلام المبني على العدل، رغبة صادقة في انتشال البلد من الهوة بأي ثمن وبأية وسيلة، وأن يشارك فيها جميع الأطراف بعيداً عن التجاذبات الأقليمية التي لن تفلح في شيء ولن تحقق لنا شيئا إيجابيا، لكنها ستخرب بلادنا وستجر علينا الويلات..

 

انظرو إلى ما قام به الروانديون إنه مثل من أروع الأمثلة في المصالحة، لقد أتى إلى سدة الحكم رئيس من التوتسي القبيلة التي نالت الحظ الوافر من النكبات والمذابح، جلس العقلاء ذوي الضمائر الحية من كلا الطرفين واتفقو على تكوين محكمة عدل، ليست دولية ولكنها رواندية في المقام الأول وشارك في وضع آلياتها كلا الطرفين، وهي نفس المحكمة التي اعتمدتها الأمم المتحدة فيما بعد لبحث جرائم الإبادة هناك، ولم تشكل لجنة ولامبعوث اممي!! ولامحكمة خاصة ولاشيء من هذا القبيل.

 

 

 

مقومات المصالحة

 

اعتقد ان اهم المقومات التي يجب ان ترتكز عليها المصالحة الوطنية وباختصار شديد تتمثل في وضع ميثاق وطني للمصالحة، اضافة الى جردة حساب كاملة، وإنشاء ديوان للمظالم، ووضع دستور يمني جديد يشارك فيه كافة شرائح المجتمع يتقدمهم الاطراف السياسية الفاعلة، ويكون دستورا لليمنيين جميعا وليس لفئة او حزب او مذهب او تيار او فكر ديني او سياسي، واعتقد ان هذه المقومات لو كنا صادقين فانها ستكون كافية جدا لانهاء الحالة التي نعيشها ونبدأ حياة جديدة لبناء اليمن الجديد..

 

سيقول قائل كيف اطالب بجردة حساب وهي الخطوة التي يمكن ان يعترض عليها العديد من الاطراف السياسية الفاعلة، فاقول انه من الضروري أن يسبق المصالحة الوطنية إجراء جردة حساب شجاعة وجريئة، وعملية المحاسبة لاتعني بالضرورة أن يتم سجن أو محاكمة كل الذين أخطأوا، فهناك وسائل ودية لتسوية الحسابات، المهم أن يعترف المخطئ بخطئه علنا وأن يستغفر ربه وشعبه.

 

المصالحة الوطنية تريد قيادة واعية ومدركة ومؤمنة، بأن الوطن والشعب ثنائية أبدية تستحق التضحية والإعتذار، من هنا تلح الضرورة إيجاد ديناميكية جديدة تحرك مسار المصالحة وينبغي أن يكون للمجتمع المدني حضوره القوي في هذه المسألة بحيث لاتختزل العملية برمتها في رجال ثبت فشلهم في كل ميدان ولا ينتظر منهم الخير.

 

أخيراً الاختيار لليمن واليمنيين، إما طريق الانتقام أو طريق الانتقال.. طريق تصفية حسابات الماضى والغرق الجماعى، أو طريق المصالحة والنجاة الجماعية.. طريق نخسر كلنا فيه بدرجات متفاوتة أو طريق نكسب جميعنا بدرجات متفاوتة أيضاً.. الطريق الطويل الذى يتلوه الندم المشترك، أو الطريق القصير الذى يتلوه العمل المشترك، والذي يوصلنا ان شاء الله الى مستقبل اليمن الجديد الآمن والمزدهر بجهود أبنائه وتكاتفهم جميعا.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي