يريدونك ذلك الحزين الوطني

كتب
الخميس ، ٢٤ يناير ٢٠١٣ الساعة ٠٥:١٦ صباحاً

بقلم: محمود ياسين-
يلتقط البعض مما أكتبه إحساساً بأني حزين، ولقد أمضيت فترة من حياتي أقاوم أن يبدو من إيماءاتي ما يشير لحزني وحيرتي.

لا يجدر بأحدنا مدافعة انفعالاته وتجلياته الوجودية تجنباً لأن يلتقط الآخرون منها إحساساً سلبياً تجاه شخصيتك، فلست متهماً على أية حال وليس عليك إنكار حزنك أو قلقك لتمضي أيامك متجولاً خائفاً تترقب كمن يخفي شيئاً. لكنني كنت بحاجة لذلك الذي مارسته أيامها من استماتة في ادعاء القوة والتماسك، ذلك أنني كنت محاطاً بغرماء كامنين لالتقاط أي ضعف يعزز به أحدهم تماسكه هو تجاه ما ينتابه من ضروب الضعف والحيرة.

هذه الصداقات واحدة من معضلاتنا الاجتماعية وأنت تتجول رفقة عداوات مجانية لم تترتب على تبادل الأذى بينكما ولا يمكن اعتبارها نتيجة لضغينة بقدر ما هي ولع بانعكاس صورة الفرد الهش على هشاشة صديقه ليتمكن من الاستمرار مطمئناً، على الأقل لكونه ليس وحده من يعاني، ناهيك عن فكرة الخفة المتداولة والمزاج القروي في الصُّحب حيث تحب صديقك وتتلمس هناته باستشفاء المريض وليس بتشفي العدو، وهكذا كنت أحسّني وأنا أخفي متاعبي؛ أسميهم غرماء لأنني كنت أحاذر منهم على الدوام.

تحضرني الآن قصة "الروثة" للكاتب التركي عزيز نيسن وهي تحكي قصة صديقين أو زميلين قرويين في الطريق إلى سوق المنطقة؛ أحدهما يمشي على قدميه ومرّ الثاني راكباً الحراثة الجديدة التي اشتراها فركب إلى جوار صديقه وبدأ المنولوج الداخلي للأول وهو يحدث نفسه بجملة رثاءات لحظه العاثر، وكيف أن هذا الصديق الذي يقود حراثته قد يكون الآن متباهياً عليه وظافراً، ليبدأ المنولوج الداخلي عند الآخر وهو يقول لنفسه أشياء عن حسد الأصدقاء, وهذا كان يحسدني على المرأة التي تزوجتها معتقداً أنها أجمل نساء القرية وهي جميلة حقاً، لكنه لا يدري كيف تنكّل بي وقد أحالت حياتي لعقوبة، أما الحراثة هذه، فأنا لا أدري من أين أسدد أقساط ثمنها وهو يحسدني عليها وكأنني لقيتها هكذا في عرض الطريق وبلا ثمن.

ولم يخرجهما من حديث كل واحد مع نفسه غير قطيع أبقار مرّ من الطريق ووضعت إحدى الأبقار روثة ضخمة جعلت صاحب الحراثة يقترح على صديقه وبلؤم متهكم أن يبتلعها وهو يعطيه الحراثة بالمقابل، فنزل الفتى وابتلع الروثة التي يمكنك استخدام المفردة الشعبية اليمنية في تسميتها لتدرك أن المسكين ابتلع "ضفعة" وعاد ليحل محل السائق متبادلين المقاعد، غير أنهما لم يتبادلا مواقع القتال النفسي بين منتصر ومهزوم، إذ بقيا يتناوشان داخلياً والأول يقول لنفسه: "لقد ألقمني روثة" والثاني يهمس بأنين: "لقد خدعني وأخذ حراثتي وسيجد طريقة للتقيؤ وغسل معدته"، وقبل دخول السوق كانت هناك روثة أخرى ولكنها أضخم بكثير فاقترح مبتلع الروثة الأولى، الذي أصبح مالكاً للحراثة تلك اللحظة على صديقه أن يبتلع القذارة الجديدة وهو سيعيد إليه حراثته، فنزل من فوره والتهمها بسرعة وعادا إلى القرية على نفس الحراثة كل واحد راكب في مكانه الطبيعي وهما في حالة صمت بعد أن ألقما بعضهما القذارة مجاناً ولأسباب غير واضحة.

ذلك حديث قديم والمثال جيد، وأنا لم أتصرف يوما بشخصية محسود ولا حاسد، إذ لطالما رجوت النجاة أو أناقة التواصل الإنساني وذكائه على كل حال. لكنني أعرف أو هكذا أظن أن صداقات كثيرة مولعة بطقوس تبادل الروث مجاناً ولأسباب ليست طفولية تماما، ولكنها تبعات ملامسة الآخرين بمزاج قروي لا يكاد يطمئن لعاطفة.

أما في الكتابة فهذا هو الحال، وإنه لمن الجذاب حقاً أن تتصل قارئة ما لتخبر الكاتب عن التقاطها لرنة الأسى في كل الذي يكتبه، إذ إن كلماتها قد تمنحه لعب دور اليائس الرومانسي، على ما يقال عن مزايا هذا الدور وتأثيره على الفتيات تحديداً، لكن الأمر من أوّله إلى آخره حديث عن الحياة في بلاد عاثرة الحظ، ولطالما حاولت شخصياً التحلي بالتفاؤل واقتراح مزاج متخفف ومبشر بالمرح، غير أن الغالب هو ما يستقر في قاع أحدنا من استخلاصات هي مزيج من رؤية وعاطفة تجاه أنشطة ومنهج التحكم بحياة الناس، وكلاهما باعث على الأسى حقاً حتى مع تجنب أحدنا لوهم أن يلعب دور الحزين الوطني، فهم سيجدون طريقة ما ليجعلونه حزيناً تنبعث من كلماته رنة أسى.

يقال إن كآبة تشيخوف في أيامه الأخيرة كانت محصلة لما ترسب من حزن شخصياته في أعماقه وكأن روحه كانت إناء لتلك العذابات، وكآبته تلك هي ما تبقى.

لست عظيماً كما كان تشيخوف ولن أكتئب يوماً على ذلك النحو، ذلك أنني لطالما آمنت بأن هناك دائماً طريقة لحصول أحدنا على مزاجه المرح ولو مقابل التخلي عن أعمق الحقائق.

عن الاولى اليمنيه

الحجر الصحفي في زمن الحوثي